بقلم عبد الخالق قلعه جي
يزخر أرشيف الغناء العربي بآلاف الأغاني الخالدة، ومئات من أعلام الموسيقا والغناء، جاء قديمها في كتاب أبي الفرج الأصفهاني عبر العصور المتتالية، وصولاً إلى الكبار المعاصرين الذين سجل القرن العشرين جل نتاجاتهم وابداعاتهم.
عندما يذكر الكبير صباح فخري، تذكر معه الموشحات والقدود.. الدارج منها غالباً.. أحن شوقا ويا طيرة طيري ويا مال الشام.. كللي يا سحب.. زوروني كي سنة.. ابعت لي جواب.. خمرة الحب.. على اليمة.. وغيرها من الروائع المحفوظة التي شغلت مكانها في ذاكرة الناس فحفظتها واحتفظت بها.
ليسوا كثر من تحضر في ذاكرتهم ربما الباقات الأجمل، تلك التي شدا بها الكبير صباح فخري مرات غير كثيرة، ليرسي بها وبما قدمه من التراث بنيان المدرسة الحلبية بجميع ألوانها الغنائية.. عَبَق الوجد بأنفاس المنى.
تتصدر الأطلال وانت عمري وألف ليلة وليلة وهو صحيح وللصبر حدود أغاني كوكب الشرق أم كلثوم استماعاً أو غناءً أو مثالاً، فيما تبقى في الظل أخرى وربما تغيب.. لعل من بينها عرفت الهوى.. أغار من نسمة الجنوب.. جددت حبك.. هلت ليالي القمر وغلبت أصالح في روحي.
هل هي الصدفة أو الحظ أو أشياء أخرى، تجعل من أغنية تقفز إلى صدارة الألبوم لمطربة أو مطرب، وربما تُعَنْوِن ملف التعريف، فتُذكر أولاً حين يُذكرون.. العذر أستميحكم أن أكون أكثر فيروزية اليوم فلا تؤاخذوني فيما لا أملك.
لفيروز الصباحات وإن شئت مساءات.. فنجان القهوة وبتلات الندى.. سألتك حبيبي.. جايبلي سلام.. أعطني الناي.. أنا عندي حنين.. حبيتك تنسيت النوم.. عتاب.. سلملي عليه وإيه في أمل.
إذا الليل أضواني.. أظنه قوة.. الاعتراف بها ولها.. سطوة تحفر في الروح أحرفها دِيَمَاً من اشتياق وحنين وأسىً، من خلائقه كبْر وبقايا سحائب من أمل.
كنت أستعيد كلماتها، فألحت علي.. أنا الإذاعي.. سماعها، ولا حيلة للمشتاق مع موسيقا فيلمون وهبي إلا الامتثال لـ”أسامينا و سوارة العروس.. لما عالباب يا حبيبي.. بليل وشتي.. ورقو الأصفر… ويا ريت.. وبواب بواب شي غرب شي أصحاب.. شي مسكر وناطر.. تيرجعوا الغياب”.
كأنها كانت تُحدث عنا.. كأنها عن بلدي كانت تغني.. عن أبواب بيوت احترقت عندها بالعذاب الأيادي والقلوب، فتساقط رجع الغبار هائماً حزيناً في كل شارع وحارة وحي.
مازالت في البال والذاكرة أغان أخرى.. لا انتشاءً ولا ترفاً.. بل ظمأً إليها نهفو، ابتغاء بعض رمق يمدنا نسغاً وقوةً، ويكون لنا جسر عبور نحمِّله البر والمحبة والوفاء والأمل، لغد أجمل يستحقه وطني وننتظره.
حاضرة فينا هذي الكلمات، ولعلها تقول تفاصيل ما نعيشه ونحياه.. ما وصلنا إليه.. ما يؤرقنا وما نخشاه.. تطبطب علينا.. تربط على قلوبنا.. وتحلِّف الجميع بحقه.. بيوته أرضه وسمائه.. بـ”حياته وحياة المحبة” وهي عليمة أن القابض عليها كالقابض على الجمر.
هي الأمانة التي حملها المحبون لك وطني ارتضاءً وتحملاً، أرهق أرواحهم كرمى لحبات ترابك ورسائل إلى من يحاول زعزعة ثقة نعضُّ عليها بالنواجذ، وإلى من يروم اختراق توازن أمسكنا به مذ بدأت تلك الأيام، ليفت عضدنا ويفتتها…. نحن بالمحبة مستمرون ولما يحاك من شرور ويراد منتبهون.. عليكم دائرة السوء أيها الآثمون.
أمانة المحبين والوطن.. أمانة في أعناقكم، أيها المؤتمنون القائمون على مفاصل العيش والحياة والفكر والتاريخ والهوية.. الماضي والحاضر والمستقبل الذي تصنعونه الآن أمانة.. رغيف الخبز أمانة والعمل للحفاظ على ما ومن بقي أمانة.
بكل تأكيد.. الكل يعي تماماً نتائج الحرب الآثمة المستمرة على وطننا وما أوصلتنا إليه.. ويعي في الوقت ذاته أن الأمانات تتطلب الارتقاء لمستوى التحدي وإدارة الحالة بما يوفر الحد الأدنى من المقومات وتلمس المزاج العام والمواقيت عبر ذهنية وآليات عمل ينفع الناس ويمكث في الأرض.
مُرَّ بي، فقد طالت نوى وبكى من شوقه الوتر.. سترجع يوماً.. خبرني العندليب و”أيام اللي جاي فبها الشمس مخباية.. انت القوي انت الغني انت الدني يا وطني”.. فيروز شكراً.. ففي البال أنت وفي المسمع.. بلادي وحبك يا موجعي.. معي يا بلادي.. يعيش معي.