بقلم عبد الخالق قلعه جي
قادماً من جمعية الزهراء مروراً بدوار قرطبة كان محور حصة المشي مساء ذلك اليوم الصيفي بقبته الحرارية التي كنت أجهد في الوصول إلى أن أجد وسيلة لتخزين درجات لهيبها كما مؤونة الصيف للشتاء.
أرتال من سيارات تملأ الشوارع المؤدية إلى دوار شفا والمتفرعة عنه إياباً وذهاباً، والشارة الضوئية يضيء أخضرها والبرتقالي، وتلك الأفواج “غير آبهة” بالأحمر تزداد اختناقاً ولا حركة إلا لأصوات الزمامير يطلقها سائقو المركبات هناك، وهم يحسبون أنها يمكن أن تفتح لهم طريقاً.
وأنا أهمُّ بالاتصال بفرع المرور.. من بين السيارات كان يتراكض ذلك الرجل الذي جعل من نفسه رجل مرور.. انضم إليه بعضهم، فتنفست السيارات الطريق، وزال الاختناق.. ومضى كل إلى سبيله وغايته.. وفعلت أنا أيضاً، إنما إلى ذلك الرجل.. الذي ما قال “ليس لي علاقة و “اش بدي” و “في غيري” و” فخار يكسر بعضو” ويصطفلوا”.. مضيت إليه أشكره وأشد على غيريته وايجابيته وأخذه الدور الواجب والمبادرة.
بالتداعي أخذني هذا المشهد إلى الطفل جاد، الذي بقي من غير إسعاف إلى أن فعلت سيدة نبيلة، وذلك بعد أن دهسته سيارة يقودها أرعن، مات ضميره ولاذ بالفرار دون أن يسعفه فمات الطفل بعد أيام.
يلتزم كثيرون ما يسمونه النأي بالنفس والمشي الحيط الحيط والسلة بلا عنب، وغيرها من السلوكيات والممارسات السلبية والمفاهيم، التي يعتقد معتنقوها أنها الأسلم “بلا وجعة ها لراس”.. وبدون أن يدروا، تُغلق دوائر الخير والايثار والفعل لديهم، وتُغَلُّ يد العون التي كان لها أن تنقذ أرواحاً في كثير من الأحيان عن أن تمد.
حالة لا تقول بانعدام الخير والمروءة والشهامة لدى أهلنا وناسنا، إنما هي تجنب لإجراءات غير مبررة، في إطار بعض الأنظمة والقوانين والتعاطي الضيق من خلالها، عند القيام بإسعاف أو واجب أخلاقي أو مجتمعي أو إبلاغ، ما يساهم في تكريس هذه الحالة لدى معظم الناس.
هذا الرصيف لي.. الشجرة والشارع لي، وهذا المؤتمن على مديرية ومؤسسة ووزارة من المفترض أنه لي، وهذا الوطن لي.. ذاك التاريخ لي والحاضر وغدي القريب لي والبعيد أصلِّي أن يكون لي. لسنا اثنين نحن.
ربما هنا أحرف القصيد وبيته.. بيت القصيد، الذي يعيد صياغة العلاقة ويُبرم ذلك العقد الأزلي المقدس.. الورق فيه سماء وأرض.. بحر وأنهار وسهول وجبال.. ومداد من محبة تفيض على مداها أربع عشرة.. رسمت منذ ألف وتسعمئة وستة وأربعين تلك الكلمات.
لعلها أقدارنا وما ارتضينا، ولعلها قسوة المحن وسنوات.. صور من آلام وأوجاع.. عناوين حفرت في الذاكرة وتفاصيل.. آمال تمسكنا بها ومحبة تبدت عهداً وصدقاً، فِعْلَ نبْلٍ وارتقاء.. فكان أنْ ذلك النفق، إلى شاطئ الأمان جميعاً عَبَرنا.
كنا نمني النفس أن نتنسم بعض أوكسجين، على قيد شوق وحياة.. يعود إلى حيث كنا نحيا، فيبقينا.. لكنها هي هي دوائر السوء والبغي تعود.. تشهر مخالبها، تكشر عن أنيابها.. تحاول من جديد النيل لا تستثني منا أحداً.
ما من أحد ليس له علاقة، فالجميع الجميع في ذات البحر اللجي الذي يريدون لنا، وذات المركب.. لسنا اثنين نحن.. فالكل معنِيٌ وواحد.. معنيٌ بأن يؤدي الذي أوتمن على مفصل عمل أمانته، وليتق الله ربه في الأمانة والنزاهة والصدق والإخلاص والعمل بما ينفع الناس وبما يسد الذرائع.. كل الذرائع، سداً منيعاً في وجه كل من يريد شراً للبلاد والعباد.
معنيون جميعاً نحن ألا نكون فحسب متفرجين.. “ما في حدا مالو علاقة” و”ما حدا يقول اش بدي” و”ما حدا يقول فخار و يصطفلوا” فالكل.. كلنا معنيون.. كلٌ حيثما كان، وبما يستطيع.. أن نُعمِل العقل ونوسع دوائر البصر والبصيرة، وان نبقي على توازن، نحن بأمس الحاجة إليه، ثقة ويقيناً وإيجابية في الوعي والادراك والقراءة لما يجري ولما يراد.. نعضد بعضنا بعضاً ونلوذ بوطننا أكثر فأكثر.
ظروف معيشية وحياتية صعبة وقاسية بكل تأكيد، نمر بها.. يتحمل وزرها أولئك الذين من وراء البحار جاؤوا غزاة ولصوصا ومعتدين.. ومع مقصر وفاسد ورخيص باع نفسه ووطنه ولم يحفظ الأمانة يستوون.
وكما كانت الأخطار محدقة ذات قريب سنة، وبعناية الله وحفظه والمحبين نجونا.. سنحي الآن ذاك الامل والرجاء والثقة واليقين رغم كل تفاصيل الجوع بأن خيوط نور لابد طالعة وأن عملاً لابد للناس يخفف من معاناتنا وأعبائنا وإلى شواطئ أمان وسلام وطمأنينة وسعة لابد بمشيئة الله سيكون..
لسنا اثنين نحن.. وعلى قدر المحبة يكون الابتلاء.. وبشر الصابرين والمحبين والصادقين الذين هم حتى عن محبتهم وصدقهم سيُسألون قالها ربنا.. وسيعلم كل الذين أرادوا الشر بسوريتنا أي منقلب ينقلبون.. ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين .