منـــــها.. وفيـــــها..

بقلم عبد الخالق قلعه جي

 

كل مفردات النداء كانت، آخر الكلمات التي خاطبته بها ممنياً النفس والروح أن يسمعها وأنه لم يغادر بعد، وداعياً الله عز وجل أن تكون الحالة عابرة.. هبوط ضغط او غيبوبة طارئة.

“البقية بحياتكم”.. قالها طبيب العناية المشددة، في المشفى الذي نقلنا أبي إليه إسعافاً، لعل بعضاً من حياة مازالت في ساعات عمره.. إنه الرحيل..

كأنك.. مشهداً في فيلم أو مسلسل تتابع.. وكأنك لست أنت الذي يستقبل لحظة الحقيقة القاسية هذه واختباراتها.. لإيمان وصبر ورجاء وتسليم ورضا بقضائه تعالى وقدره فتكون عند سويتها أو لا تكون.

كابوس كأنه، وكأنه ضرب من وهم وخيال.. كل ما تسمع وتنظر وترى.. يمر بك دون ان تعيه.. دون أن تدرك ماهيته..  وربما تحاول أن تزيح عن ذهنك شبح تفاصيل “أجل” حملته سويعات وقد جاء.. لا يستقدمون واحدة ولا يستأخرون.

إلى بارئها، الروح فاضت، أما الجسد فكأنه مستسلم لنوم هانئ مطمئن وادع ولست أدري أهي غفوة تبدأ بعدها الحياة، أم أن غفوة هي ما كانت عليه مَرَّ الأعوام والسنين.

أقرباء وأصدقاء جاؤوا مشاركين في رحلة الوداع الأخيرة.. يعلن عنها مكبر صوت السيارة التي تقدمت الموكب إلى حيث، من أتى الله بقلب سليم..

رغم سرعتها العادية، كنت أخالها تنهب الأرض ومن خلفها، بين أوتسترادات وشوارع، يطوف بها لآخر مرة إلى حارته الثالثة التي سكنها السنوات العشر الأخيرة وأصبح له فيها أصدقاء وأحبة، ومشاوير كل يوم له فيه خمسة.

والملأ المحبون يحفونها.. تسري الروح إلى “الروضة” بيت الله.. تشهد الصلاة عليها والدعاء، وتشهد الأكف الخاشعة الضارعة، رافعة إلى الله “أم الكتاب” في الشوارع.. تلك التي بها مرت بها ورافقتها إلى هناك.. “وفيها نعيدكم”.

رغم حجم المصاب، تلفك إزارات من مودة نقية خالصة، خلعها المحبون، كلمات تتلقاها.. تسمعها.. تقرؤها.. مصافحة، مشافهة، تستقبلها.. مواساة ولهفة ونبلاً شفيفاً طوقوا بها القلب والعنقا.

كادت أن تكون من الزمان قرناً.. تسعون من السنين لبث وازدات خمساً.. حي القصيلة مسقط الرأس وبيت حلبي يمور بالعراقة والطيب وشريف العيش.. هو الثالث بين إخوته وقد راح يمضي في أروقة الحياة وفِناءاتها..

جامع الطواشي والكتاب محطته الأولى، ومنها إلى رحلة السعي اليومي، سيراً على الأقدام إلى معمل النسيج بعين التل .. أكثر من أربعين عاماً بين آلاته ومكناته، قضاها، وبكرات الخيوط وأثواب القماش وحبات الأصبغة.

كل الآلات عرفته و- كما كل من عرفه – أحبته، وهومن واحدة إلى أخرى.. أيُها تحتاج عوناً، يمد لها خبرة ويداً.. أما الثانية ويد “أمينة” أمي فكانا يمدانها إلى غراسهما زينة الحياة الدنيا.. أطفالاً ويافعين.. صبايا وشبابا. تسقيانهم نسغ الروح وسلافة “إقرأ” سلَّماً وفضاء عبور، من مهد طيب العود، نقي طاهر إلى حبات تراب الرقاد البرزخي والقيامة.

إلى ربها وقد رجعت نفسك المطمئنة راضية مرضية.. فلترقد “أبا إسماعيل” بجوار “العينية” أمي.. وهي تقول خمس سنوات، بين أن افترقنا والتقينا كأنها خفقة قلب وابتسامة روح.. سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار