الجماهير – يمنى حمامي
في ذلك اليوم قررت أنا ابنة الأربع أو الخمس سنوات ،أن أبقى مستيقظة ، حتى انقضاء صلاة الفجر ، ثم بزوغ الشمس ، هناك في بيتنا بالكلتاوية ، والذي يمتاز بوجود فسحة كبيرة أمام باب البيت من الخارج ، والتي كانت تمنح الأصوات المنبعثة من كل مكان صدى له وقع بالنفس ،، رنان ، جلست حينها أترقب قدومه !!!
نعم فلقد كنت أخاف منه كثيرا ، وكان لابد لي أن انتزع الخوف من داخلي ،، لأن شعورا معاكسا كان يشدني لذلك الصوت !!
وآن الأوان كي أوجهه ،
من بعد صوت تسميع اذان الفجر ، يأتي صوت بائع الحليب ، أكثر الاصوات التي كانت تثير الذعر في نفسي ، لا أعلم كيف لطفلة صغيرة لا تعي من الحياة سوى بضع أشياء ، أن تدقق في تلك التفاصيل ، وأن يلفت انتباهها كل ماله علاقة بذاكرة الروح ،
هذه الروح التي لا تستطيع إنشاءها بشكل سليم إلا إذا كنت متشبعا بماض غني ، و غنى الماضي يتبع لمجموعة من التفاصيل الذاخرة ، وكل من عاش وسكن حلب ، وعاشر أهلها لابد أن يتأثر روحيا بكل جزيئات الحياة فيها ،آنذاك كان كل الذي أعيه و أعرفه ، هو أنني كنت مهتمة لمواجهة ذاك الرجل !!
( حلييييييييب ) ، و هاقد اقترب بائع الحليب من بيتنا ، و سبقه صوته الرنان ، و لم أوشك على الإقتراب من ردهة الباب حتى شاهدت والدي و بيده إناء كبير مخصص للحليب ، يتوجه للباب ، ووالدتي من المطبخ توصيه بملأه تماما ، متى استيقظوا ، وتيقظوا لقدومه ،، و لا اتذكر وقتها أن أبي تفاجأ بوجودي ، فأنا كطفلة أتحرك في عالم اظنه يخصني وحدي ، و هم كأبواي يعلمان مسبقا بكل مخططاتي !!
فتح له والدي الباب ، بعدما نقره ب ( طاسته العجيبة) ،
و شاهدته لأول مرة في حياتي حينها ، يا إلهي ، إنه بشر يشبهنا ، فابتسم لي و هو يفرغ الحليب من على ظهره ، ويملأ الإناء خاصتنا ، فبادرته
( أنا لم أعد اخاف منك ) ،
فضحك هو ووالدي كثيرا ربما على بلاهتي ، أو براءتي ،
و ضحكت أنا انتصارا و تحقيقا لشجاعتي ،
( حليييييييييب ) ، ختم بها اللقاء كما بدأه ،،
و بعدما غادر من أمام بيتنا مع نبرة صوته ، و توجه للجيران ، كانت والدتي قد وضعت الحليب على النار لتغليه ،
و قد كانت جهزت مسبقا العديد من الصحون لتصب فيها الأرز بالحليب ، الذي تتفننت في طبخه ، طبعا غلي الحليب يحتاج لأكواب مجهزة للشرب لمن تلهف الإنتظار ، وساعات طويلة بعد غليه ، كانت أمي تحركه على النار الهادئة ليتعقد مع الأرز و تضيف له احيانا الماء زهر او المستكة ليضيف له نكهة مميزة يعشقها معظم الحلبية ،
تلك الخلية من الصحون المتراصة كانت تزخرف سهراتنا مع الأهل والأقارب مساء في فسحة بيتنا السماوية ، و التي كانت تنطق من بين صمم الجدران ، بهياكل من اشجار امي وياسمينتها المتعشقة هنا وهناك ،،
بالفعل لقد كانت أجمل الحكايات تحكى مع نفس أمي وهي تعد الطعام ليصبح شهيا جدا ، لذلك اعتقد أنهم كانوا يقولون ( فلانة نفسها طيب ) .. كيف لا و كل شيء حولهم مبهر وجميل ،حتى أرواحهم ونفوسهم نيرة رغم أمية معظمهم ، سرائرهم نقية ، بيوتهم دافئة ومريحة ، كل شيء حولهم يشبهونه ويشبههم ،
وبالنسبة لي ، لقد عشقت كل مشتقات الحليب منذ ذلك الحين ، فعشق الأشياء غالبا يبتدأ بشيء من الغموض
و الخوف ، ليصير حبا ،،تماما ككل التفاصيل المحكية عن حلب وحاراتها وتاريخها ، كلها نسيج واحد لا يتجزأ ، الاختلاف فيه ، هو في مكانته فيك وليس في مكانتك فيه .
رقم العدد 16346