كليــــوبــــاتــــرا

بقلم عبد الخالق قلعه جي

بعد أن زار قلعة حلب، وشاهد قاعة العرش وجدرانها المكسوة بحشوات من الخشب الثمين المزخرف بالخيوط العربية الأنيقة، وأرضها المفروشة بالمُشَقَّفات الرخامية، وتلك البُركة ذات الطراز الأيوبي والثريات الخشبية المحفورة بمنتهى البراعة على الطريقة الفاطمية قال:

لقد قرأتُ كل ماورد في قصة “ألف ليلة وليلة” عن قصور الملوك والخلفاء والأمراء، فعددت ذلك من نسج الخيال وتصورات الوهم.. ولما دخلت قاعة العرش بقلعة حلب، ورأيت ما فيها من عظمة الفن وسمو الذوق وتألق الجمال ودقة الصنعة العربية، اعتراني الذهول والخشوع معاً، وأبصرت عن كثب أروع قصور ألف ليلة وليلة ماثلاً للعيان، ورحت أسأل نفسي أهذا من صنع البشر أم من مخلفات آلهة الأساطير.

هو ذا بعض ما قاله سائح سويسري لصاحب مجلة الضاد ومؤسسها الأديب الشاعر عبد الله يوركي حلاق، والذي جاء في كتابه “حلبيات” الصادر عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثمانين، من منشورات مجلة الضاد.

هذه فاتنة الدنيا وحسناء الزمان.. يشاء الإلهام أن تكون رفيقة رحلتي اليوم مع هذه الأسطر.. يا لتلك الحوراء التي يغنيها محمد عبد الوهاب في قصيدته كليوباترا.. لكأني بها وبه وقد صاغها كما العرافة لنا وقارئة الفنجان.. والحب علينا دائماً هو المكتوب.

كليوباترا كانت القصد.. هنا بحلب حيث زيارتي.. فن وإبداع.. حرفة وصنعة وتحفة “مِتْصَورة” في صفحة المدينة الجميلة وموروثها الأصيل، التي ما فتئت شمسها تنسج بخيوطها الذهبية وخطوطها، شاهداتِ تألق فنونها التشكيلية أيضاً، التي اشتهرت بها عبر مئات السنين.. وقديم من الهوى وجديد.

كما التركيبة اللحنية لعبد الوهاب، كانت تكوينات اللوحة أمامنا، في ايقاعيتها واسترسالها، وكما القدود الحلبية في قدها تماثلاً وتكراراً.. أي روعة تأخذك، وأي طرب ونشوة، وأنت تجول بناظريك تفاصيل خطوط وقزح ألوان.

“عرفت حلب ما يسمى بالفن العجمي منذ مئات السنين وذلك في البيت الحلبي متخذاً من الحجر أرضية لزخارفه”.. هكذا بدأ الفنان المهندس عبد الهادي حردان خريج المعهد العالي للفنون المسرحية وأكاديمية الفنون بالقاهرة تعريفه بهذا الفن..

“في مرحلة تالية – ولتطور تقنياته ومواده – تم التحول بهذا الفن إلى الخشب، لتغدو البيوت الحلبية بأسقفها وجدرانها وأثاثها، متاحف في منطقة الجديدة والبياضة بيت غزالة وبيت السيسي ومدرسة سيف الدولة بالإضافة إلى بعض دور العبادة من كنائس ومساجد”.

الفن العجمي يحاكي السجاد العجمي الشهير، إذ يستوحي رسومه من النباتاتً أغصاناً وأوراقاً و وروداً.. ويتخذ أيضاً من الأشكال الهندسية مكونات تتماهى مع الأولى حركةً وسكوناً ليصيِّرها تشكيلات زخرفية بديعة نافرة، كأنما الخشب يحكي قصة الجمال الذي تشرَّبه فأرتوى على مداه بهاءً وجلالاً.

في الحب ما من كيف ولماذا.. “قاعة العرش أضرمت عشق الفنان حردان للفن العجمي، ليبدأ مشروع حياته ورسالته عبر تأصيل هذا الفن وإحيائه وإعادة ألقه من جديد، وذلك منذ عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين، فكان إنجاز الكثير من الأعمال في قاعات وبيوت ومعالم سياحية وأثرية، محلياً وعربياً وأوربياً، بالإضافة إلى الكثير من المعارض”، ونيله العديد من الجوائز.

بكثير من المحبة والاعتزاز، يذكر قيامه بترميم منبر الجامع الاموي الكبير بحلب عام ألفين.. وبكثير من الأسى يذكر جريمة الأيدي السوداء الآثمة، التي امتدت فسرقت هذا المنبر وأبواب الجامع.. حُلمٌ ظامئ من جديد لديه يتبدى، تحمله محبة وخبرة وثقة لإعادة تصنيعه بالشكل الذي كان.. وهو على ذلك قادر.

عام ألفين وثمانية عشر، ساهم في تأسيس الجمعية السورية لتأهيل الآثار والحرف، التي عملت على إقامة دورات تدريبية لتعليم هذه الفنون وذلك بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية، فكان هناك عدد من الفنانين الشباب الذين دخلوا سوق العمل.

“هي مسؤولية الجهات المعنية والأهلية، الحفاظ على هذا الموروث واستمراره ونقله للأجيال.. مسؤوليةٌ تتصل أيضاً بتسريع عجلة إعادة تأهيل الأبنية الاثرية والسياحية في المدينة القديمة بشكل خاص، والاستفادة من الخبرات والكفاءات التي يمكن أن تقدم نفسها محبة وعطاءً”.

بعض محطات من رحلة العمل والابداع المستمرة للفنان عبد الهادي حردان.. ولعل عمله مهندساً للديكور ومخرجاً في المسرح والتلفزيون بحلب والقاهرة، أغنى ذائقته الفنية ورؤاه الإبداعية ونتاجاته مع تفرغه للعمل في مجال الفن العجمي.

كليوباترا، ونعتصر البقية الباقية في فنجان قهوة ما أردنا لها انتهاء، ونحن نغادر ليس داراً ولا مرسماً، إنما بما ضمه متحفاً من كل فن لم يزل يروي وتصغي للروايات الدهور.. يتهادى صوته “عبد الوهاب” وهو يغني من النهاوند قفلة الختام.. ختام قصيدة كليوباترا.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار