الجماهير/ مصطفى رستم
جاذبة للنفس هي رائحة الأرض التي تتساقط عليها قطرات الماء، تجعل رئتك تنتعش من جديد، فبعد إغداقه ذات مساء كميات منها أمام البيت العربي “الحوش ” وضع عدداً من الكراسي الحديدية الصغيرة، تتخللها حبال من (النايلون)، أطفأ النار المتقدة من الغاز، وأخرج إبريق الشاي طالباً مني إحضاره لضيوف هموا بالحضور “سهرتنا صباحية ابن أخوي” أردف عمي “عبد اللطيف” المعروف بين العائلة بعشقه للسهر، تسللت بعيداً بعد حضور ضيوفه للذهاب الى أشقاء والدي مستغلاً إجازة العيد، بيوتهم المتقاربة في الحي تمنحك الانتقال بينها بسهولة فهي متقاربة في حارة وديعة بأهلها الطيبين.
لم أدر كم كان ممتعا مشواري الليلي هذا في ليلة العيد سيكون من أحلى المشاوير في ذاكرتي الطفولية، وقد مرت عقود وأنا فتى صغير، لم أدر أن لشوارع بلدتي وأضواءها، وحتى لكلمات الناس وهم يتبادلون المباركات بالعيد والأمنيات الطيبة بين بعضهم صدى في الذاكرة لا أجمل ولا أحلى (كل عام وانت بخير يا أبو فلان …) إحساس ضمني أنها نابعة من القلب.
ولم أدر أن لرائحة مأكولات العيد التي تفوح من البيوت، لذة لا تعوض وهي الرائحة الممزوجة بموسيقى أم كثوم (يا ليلة العيد) المتماهية مع حركة الناس غير المعتادة إلا في ليالي العيد لقضاء حوائجهم، وعروض صغار التجار، والباعة التي تصدح بها متاجر البلدة، مع ضجيج أضواء السوق، وأصوات المسجلات العالية التي تخرج من بعض المتاجر ( لبيك اللهم لبيك ..).
مشيت وقتها مسرعاً كأني أسابق الريح ولو أدري ما لهذه المشاهد من لذة بالبال والذاكرة لكنت تمهلت قليلا، لأتوقف قليلا عند هذا الصبي الذي يكنس من الأرض ما تبقى من الشعر المتساقط في دكان الحلاق المتوضع في سوق ” أبو العلاء، ولاستمتعت أكثر وأنا أحدق بالفران، وهو يخرج (صينية) كعك العيد، لتصدمك معها رائحة تنساب إلى جوف أنفك الذي يستقبل كماً من الروائح الشهية (مأكولات وحلويات وعطور..) وددت أن أطير وأنا أتنفس رائحة الكعك الأصفر الممزوج بالسمسم و(حبة البركة) الشهي.
استنشقت ما يكفيني من رائحة زكية وهممت بالتنقل بسوق يعج بالبضاعة الجديدة من ثياب ومأكولات وخير كثير،، كم الأضواء الساطعة في الأسواق كانت مشوقة ومثيرة حتى (العربات) الجوالة تضع مصابيح، السوق يتلألأ كأنه يعج ببحيرة من الأضواء، وهناك كوكبة من الناس يساعدون أحد الجيران بتركيب زينة (الحج) فصاحب الحج خلال أيام سيأتي جالباً معه الهدايا ويقدم لضيوفه (راحة العيد) المليئة بالفستق الحلبي.
يثبت أصحاب البيت زينة أعمدة الخشب المنتصبة أمام الدار العربية يوضع عليها نباتات خضراء وأغصان السرو وأوراق النخيل مع حبال من الأضواء الباهرة، فيما الخطاط منشغل بكتابة (حجاً مبروراً ..وسعياً مشكوراً) على جدار مدخل الدار وحديث للرسول (ص) (من زار قبري وجبت عليه شفاعتي)..
وصلت لورشة عمي الحاج “وليد” وهو الفنان بصناعة (الموبيليا العربي) ورشته المتوضعة بما يسمى (العبارة) وهو تجمع لعدد من الورشات ويتطلب لتصل لهذه الورشات أن تنزل إليها بما يقارب عشر درجات تحت الأرض، وأول هبوطك لهذا المكان تستقبلك رطوبة تتغلغل بجسدك، ذات يوم شربت كأساً من الشاي المصنوع على الفحم ما ألذه وقتها، صنع لي يوماً سيفاً من الخشب لي ولأخي علاء قال لي ما رأيك: أن تذهب معي؟ إلى أين يا عمو… (ضاحكاً) إلى المقبرة.
بعد صلاتنا في جامع صغير جداً تجمع مع أصدقاء له، يباركون العيد ويتجاذبون أطراف الحديث كم أعشق الأصدقاء وحرارة محبتهم لبعضهم قولاً وفعلاً، أمسك بيدي وتوقفنا عند بائع (الآس) وهو نبات يوضع على القبور في العيد، قال لي هذه هديتنا لجدك .. ياإلهي !! حتى أمواتنا يشاركوننا بالفرح، نعم إنها حكاية فرحة العيد (ببساطة) الجميع يفرح الأطفال الكبار وحتى الموتى.. وكيف يفرح الموتى؟؟
وبقدمين صغيرتين بدأت ألاحق خطوات عمي الحاج “وليد” كان يضع جرزة صغيرة من المفاتيح في (علاقة) على خصره وهو يمشي تصدر صوتاً، وحين ندخل بازدحام المتسوقين ولا أشاهده أنتبه للأصوات الصادرة من علاقة مفاتيحه المتلاطمة، فأشق دربي إليه، خرجنا من زحمة السوق، وكأننا نخرج من معركة، كنت منهمكاً وأنا أحمل (كمشة) من أعواد الآس وهو يحمل الكمية الأكبر، ابتسم وقال: (يا حيف ع الشباب).. وقفنا أمام المقبرة أخيراً وقتها أصبت بالفزع كيف لعمي أن يدخل المقبرة في هذا الظلام الدامس، ولا نملك حتى عود ثقاب.
كعادته وبمزاح الرجل الواثق دفعني وقال هيا يا بطل.. ولجنا إلى داخل المقبرة والتي لم يكن لها أبواب كنت أسمعه يدعو للأموات ويكثر من الدعاء، تلاشت كل مشاعر الخوف شيئاً فشيئاً كنت أخفي وجهي بين أعواد (الآس) وأراقب ما سيحدث كان يلوح في مخيلتي أنه سيخوض مغامرة ستحدث معنا كما الأفلام (شبح، خيال أبيض، أو حتى سينفتح القبر ويخرج ..).
ما أن توسطنا المقبرة حتى وصلنا لقبر جدي تقدم عمي وقرأ الفاتحة وبدأ بوضع نبات الآس على شاهدتي القبر ويربطهما بإحكام عبر حبال كنت أتلفت يميناً ويساراً، لا شيء يحدث، وابتعدت قليلاً لأشاهد القبر المزين بالآس من خلال ضوء القمر، إنها ليلة العيد يا (جدي)، هل أنت فرح ؟! هل سيفرح بما قمنا لأجله؟
هذه الأسئلة التي تدور في رأسي الصغير راودتني بعد عودتنا من المقبرة لأكمل سهرتي مع عمي عاشق القمر والسهر (عبد اللطيف) وما أن بدأت تكبيرات (الله أكبر، الله أكبر..) تصدح من المآذن بعد صلاة العيد توجهنا إلى المقبرة لزيارة القبور بصحبة والدي وأعمامي جميعاً، تدفق جموع الناس كباراً وصغاراً إلى المقبرة إنها ليست كما كانت البارحة كلها مزدانة بالفرح، وضفائر الشمس فجراً تلامس نبات الآس وببراءة الطفولة عرفت أن الموتى فرحون بالعيد، هنا شاهدت تجمعاً حول قبر (جدي) الحاج (مصطفى رستم) قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة، وما أن وضعت يدي على وجهي حتى لاح طيفه بقبعته البيضاء فوق رأسه مبتسماً وكأنه يوحي بنظرته الراضية (نحنا بخير ،، كل عام وأنتم بخير).
رقم العدد ١٥٧٦٤
قد يعجبك ايضا