واقعيّة الحدث ورومانسية اللغة.. قراءة في المجموعة القصصيّة ” صرخة ألم ” للقاص جوزيف شماس

 

الجماهير./. زياد محمد مغامس

ظاهرة لافتة يلحظها من يتابع الأدب الحلبي، هي ظاهرة الأدباء المتقاعدين وهؤلاء هم من كان ضابطاً، ومنهم من كان معلماً أو طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو … ومن هؤلاء المهندسين “جوزيف شماس” وقد قدم للمكتبة الأدبيّة مجموعتين قصصيتين، “مصابيح الضباب”، “وصرخة ألم” ، ويقول: إن مجموعة لاحقة ورواية في طريقهما إلى النشر، ومن يتابعه فيما قدّمه يعرف أن الأدب كان كامناً في نفسه وبرز عندما حانت الفرصة؛ لأن عمله السابق كان يبعده قليلاً عن ميدان الأدب الذي يحبّه، وعاد إليه بقلمه الخصب، بمحبّته بعد غياب، وسنتحدّث عن بعض ما رأيناه في مجموعته الأخيرة، وهي حافلة بالخصب والجمال.
تفح المجموعة “صرخة ألم” عن ولع متبادل بين الكاتب وواقعه، فهو يستمد نسغ حكاياته/قصصه منه ويدبجّها بقلمه، بعد أن يتلاعب بها بخياله ويسكبها بكلماته، وهو يسعى من خلال قصصه إلى الوصول بمقولات قصصه إلى عمق الواقع العاني؛ لينفذ منه إلى واقع آخر، ترسمه مخيلته وفق ما يتراءى له من إبداع، ساعده في الوصول إلى كثير ممّا يريده، لغةٌ حيّة مستمدّة من واقعين: ريفيّ دفين ثابت، ومدني ماثل متحوّل، سنأتي على بعضه لاحقاً. واقعان مكانيّان يملأان الذاكرة ويتداخلان مع ثنايا الوجدان، وقد قدّمت القصص بلغة حيّة تملؤها الأوصاف الجميلة، وتعمرها الأصالة، وتمد يدها إلى قطوف اللغة الدانية التي تعيد إلى الفرائد اللغويّة الثمينة التي يدبّجها قلم جبران خليل جبران ونعيمة والمنفلوطي وغيرهم، ويبدو في لغته كسائح لغويّ يجول في رياض الكتابة ويقدّم الفاكهة إلى بساتينها، فتبدو محمّلة بالخصب والرواء اللغوي اللافت.
يأتي القاص شماس بنماذجه من واقع قريب يحياه في يومه، ويطلّ منه على ردهات الماضي، ليعود ويظهر في واقع قصصيٍّ لغويٍّ يكتب نفسه وهي (القصص) تسبر غور الراهن وتقدّمه بطزاجة في سرديّات قصيرة قصصيَّة، لا تقدّم الواقع كما هو، لكنَّها تقدّمه بعد أن تعيد ترتيبه في الذاكرة التي تطرحه مجدّداً مدثراً بالحب مزنَّراً بالأشواق، وهو بذلك لا يؤثر أن يطرح واقعاً جديداً طوباويّاً مغامراً، بل كان همّه أن يعود بالواقع إلى أصالته؛ لأنَّه يعيشه ويعي كامل جزيئاته التي يحاول أن يعيد ترتيبها بطريقته، ولا ينسخها ويقدّمها كواقعيّة هشَّة.
يظهر بعض ممّا سبق في قصّته “إغفاءة هادئة” التي ينتقل فيها لحظة حب حالم إلى حديث ورأي في الهجرة والزواج والأفراح وشؤون أخرى أقل أو أكثر أهميّة، يقدّمها القاصّ على لسان بطله في لحظة صفاء، إذ يجهر فيها بالحنين الشخصيّ والوطني وحبّ الحياة الحرّة، التي تبحث عن الانطلاق وتهزأ بذلّ القيود والمعيقات وتنتصر في النهاية عليها، وهي قصّة حبّ مكحّل بكبرياء متنام كزهرة نديَّة تنتصر على أعاصير الحرمان.
وكذلك في قصّة ” الدرب” التي تبدأ من لحظة على الدرب الذي يعجُّ بزحمة المرور التي تؤدي إلى شرود يطلّ على زحمة الطرقات التي يسلكها المتهافتون على ردهات الأمم المتحدّة، وعلى العمارات الشاهقة التي تُعَمّر بالمقامرين والسماسرة الذين يبيعون الأوطان، وعلى الأرصفة التي تمتلئ بالتهريب والتزييف… وتبدو على خلفيتها عمارات شاهقة وصوراً ملوّنة لأولئك المتسربين من العمارات الموجودة هناك؛ ليكونوا هنا من المطبلين والحاملين للشعارات التي لا تقدم ولاتؤخر، ويقارن فيها بين نوعين معروفين من الدروب ويلمح فيها إلى دور المثقفين الواعين من خلال استحضاره لصوت “وفاء” ذلك الصوت الذي ينضح بالمحبّة والمجد والأصالة، إنها أحلام مثقف، لكنها أحلام واقعيّة تتم في وضح النهار، والحب فيها حبٌّ حقيقيّ يضم بين جناحيّه الوطن الكبير لأنّ العنوان في النهاية إلى “درب الأمّة” .


وفي قصّة “الضباب” يتحدّث عن الحب في زمن الاغتراب، وعن إمكانيّة وجوده في الأرض الغربيّة، ولم يخرج القاصّ بها عن ذلك العزف الذي يدلّ على شغفه بالحياة, ولملمة نقاطها المضيئة، ففي القصّة يلتقي الحبيبان أوّلاً ثمَّ ينكشف الضباب الذي يغلّف العلاقة، وتكشّف المشاعر المزينة بالحبّ، وهي قصّة غاب فيها الحسّ الوطنيّ المباشر، لكنّه بدا ثانية في رحلة العودة إلى الذات، إلى الوطن، إلى الحبّ الحقيقي، إلى حضن الوطن، قبل العودة إلى حضن الحبيبة (وما كادت تتوارى عن أنظاره حتّى ركض لاحقاً ظلّها، يجمع لآلئ مآقيها ويناديها: ياحبيبة القلب ونسمة الأمل، لن أتركك بعد الآن، ولن أعود للغربة بعد اليوم أبداً) ويتحوّل الغياب إلى حضور دائم على أرض الوطن.
تلك العلاقة بين موطئ القدم والذات ظهرت جليّة في مجموعة جوزيف شماس الأولى “مصابيح الضباب” لكنّها تأصلت في المجموعة الثانية “صرخة ألم” وهي علاقة ارتباط وتجذّر ساهمت بقوّة في إشعال حرارة القصّ وفي شحن ذات المبدع ودفعه لاستخدام الفن القصصيّ بإبداع وأصالة،كان يسبر فيها غور اللحظات المأزومة أو يسترجعها على لسان أبطاله أو تصرّفاتهم. ويبدو فيها ملتحماً مع الوسط الذي يلتقط منه قصصه، ففي قصّة ” الوصيّة” يتحدّث عن انتصار المقاومة في جنوب لبنان، ويغطي بعض أحداثه صحفيّان، مسلم ومسيحي، ويصفان الأمل المطلّ على العيون الواسعة ومن أعينهما معاً، في إشارة منه إلى أنَّ الفرح يعمّ الجميع دون استثناء، وكانت أعينهما تتوَّقُ إلى اتصال والتحام كانا يريدانه، ويطلّ من عيونهما أمل بانتصار الضفّة والقطاع وباقي الأرض المحتلة وماكان أحسن وصفه للأرض المحتلة بالجدائل، كان ذلك من خلال رصد واقع مباشر بدا فيه حكائياً أو حكائياً خطيّاً في مدار السرد، لكنَّه يبقى الواقع المأمول الذي يسعى إلى تحقيقه.

ومثلها قصّة ” بنت البلد” التي تتحدَّث عن حبٍّ يتمّ في الغربة ويكون الوطن هو الاسم الجامع لكليهما، وقد عادا إليه محملين بأعلى تحصيل علمي، وبزهور من الأطفال سيقع على عاتقها بناء الوطن مستقبلاً، ومثلما سبق كانت قصّة “حزام الأمان” التي تتحدّث عن اللاأمان في مؤتمر القمم العربية ويكون الأمان في الحب المعقلن للوطن الذي أعلن عن بزوغ فكرته وولادته الجديدة في الطائرة المقلّة لوفد مدعوّ للحضور والتغطية، وليس غريباً أن يجد المتابع الحبَّ ماثلاً في معظم الصفحات، وضمن معظم القصص، فمن خلال الحبّ طرح ما يريده بالتقنية القصصيّة التي كان يراها مناسبة.
إطلالات
يعرض القاص جوزيف شماس في مجموعته لبعض زوايا الواقع، بعد أن يختارها بعناية كما في القصص التي تمّ الحديث عن بعض ما فيها، وكما في باقي القصص، ومن أمثال:”زيارة مفاجئة” و”ساحة القرية” وغيرها، فالمتابع يرى الواقع منعكساً على الصفحات بشكل مباشر، كما يرى النقيض الذي يشوهه أحياناً ويزيّنه أحياناً أخرى، يمر عليه بعجالة؛ لأن القصص القصيرة لا تحتمل الإطالة، أو هو يطيل في الإيجابيات، ويمرّ لمحاً على السلبيات لأنّه لا يريد الثبات، وينفذ منها بذكاء إلى المرتجى ولو من خلال مقولات تبشيرية شائعة يلحظها المتابع في ثنايا القصّ، فالواقع الماثل ركيزة يطلّ منها على واقع أرحب يريده أكثر سعادة وجمالاً.


فالحدث في قصّة ” عزلة ” يتم من خلال رجل يرى ذاته ويناجي واقعه من خلال المرآة فالحزن الشخصي هو حزن عام كان في البداية كما كان في النهاية، فهو حزين وأمته كذلك (بئس أمة ساستها كاذبون، وشرفاؤها صامتون، وكرماؤها أذلاء، بئس زمن يكون فيه الجهلاء قادة … ).
هذا ما انعكس على صفحة ذاته ورآه منعكساً على صفحة المرآة، مع أنَّ سير الحدث كان لايوحي بهذه النهاية لكنه انعكاس من الواقع المعيش على الإنسان الذي يرى ذاته ذاتاً أخرى غير منسجمة. هكذا رأى القاص الحياة، وهكذا تحدّث عنها، ولم يرها صادقة مشرقة إلا في الحب، وأين هو الحب المثالي الذي يتحدث عنه، رغم أنّ حلمه كان متطابقاً مع واقعه الفنيّ وربما الحياتي فكلّ إناء بما فيه ينضح، لذلك وغيره امتلكت القصص كثيراً من حيوية تجلَّت في الفكرة واللغة المختارة بعناية، كما يلمح في طريقة التناول التي لا تكاد تختلف في مجمل القص.
عالمه القصصي
ينهل القاص ” جوزيف شماس” قصصه من عالم مثقل بالهموم لكنّه آمل بالحب، كما يأتي به من مخيلة مثقف يريد إصلاح المحيط ويراه مسؤوليّته وحده، فالأخطاء التي يراها في محيطيه القريب والبعيد تّقُضّ مضجعه،كلمنها لا تدفعه إلى اليأس وتجعله يغرق في أتون المآسي، بل يرى نفسه مسلحاً بالأمل، فهو يعيش الواقع ويحاكيه قصصيّاً بطريقة يقبلها منطق الحدث ومجريات السرد، وهو واقع مملوء بوصف جماليات المكان، ومكانه القصصيّ مكانان كما ألمح، وهما ثابتان أحدهما مستمدّ من الماضي الذي عاشه الكاتب في الريف، وزرع في ذاكرته بطريقة عصيّة على النسيان، لأنَّ نفسه امتلأت به، فانعكس في قصصه كلّها تقريباً منه:
(في تلك القرية الجميلة حيث تطير الفراشات محمّلة على أجنحة الأثير لتهمس لأزهار المروج كي تصحو من نومها قبل أن تهبّ ضلوع النسيم وتهز حواملها فتسقط قطرات الندى الفضيّ من على أجسامنا) أو من مثل: (مرّت أناملها بين راحتيه كما تمرّ النسمات لتداعب الرياحين وتلامس خدود الأزهار لحظة الشروق، فاهتزّت أنفاسه طرباً حين همست في أذنه كلاماً رطباً مبللاً برذاذ العشق).
ومعلوم أنّ القصّة القصيرة لا تألف هذه الوصوف ولا تستسيغها في مجريات الحدث وهي أميل إلى القصر والتكثيف، وهذا ما قد لا يوافق هوى بعض الدارسين، ثمّ أن الكاتب عاش في المدينة فشغلته شواغلها، وأخذته استقامة شوارعها فتزيّن أسلوبه بها وظهرت وصوفها في سرده:
(كان يقود سيّارته ببطء باتجاه مبنى الجريدة فجأة توقف السير وجنح انتباهه إلى ما رآه وسمعه من سائقي السيارات إثر غياب شارات الضوئية) عالم مدني لم نلحظه في سرد الريف، وكانت القصص تتم في مكتب أو سيارة أو طائرة، أو غرفة أو طريق مزدحم، وكلها مواطن لا أثر للريف فيها، وكان يؤثثها بدقة لغوّية فقلّما خلت قصة من وصوف ممتعة، وهي وصوف ليست مجّانية بل كان يعرف كيف يجعلها تتساوق مع الحدث، وشواهد ذلك منبثة في معظم الصفحات، وكان لبعض القصص مدخل لغوي تعبيري يُمَثِّل لحظة متعة لغويّة حاملة ينفذ منها إلى ما يريده من استرجاع أو تداخل بين ما هو ماثل وما قد كان أو بين ماثل ومرتجى، وهذا ما جعل بعض القصص تطول أحياناً وتفارق بذلك فنيّة القصّة القصيرة في نماذجها الراقية الجديدة، وهي “القصص ” وفق الشكل الذي بدت فيه كانت تعتمد الخطيّة في تقديم الحدث إجمالاً، رغم ما كان يوجد في القصص من تقطيع فنيّ أحياناً، لكنه لم يصل إلى الصميم، لأن تجربته القصصيّة ما تزال قيد الاختبار رغم الكمّ الماثل فيها من أصالة، وقلما استخدم تقنيّة المشهد أو الاسترجاع الفنيّ أو …
وكان الحوار مقبولاً متناسباً يكشف ما في دواخل الشخصيات، أو ينبئ بتتمة حدث وكان لا ينتهي أحياناً ويتم في أعطاف السرد، أي كان ينفذ منه السرد بنجاح ليتم به الحدث دون أن يشعر المتابع بانقطاع أو قسريّة وبخاصة في تقديم مشاهد الحب التي لم تكن تتمّ لحظياً بل كان طرف يكمل نجواه كما يريد، مما يثير الدهشة أحياناً ومنه:
-صباح الخير أستاذ حسن
-صباح الخير من فضلك …
-شكراً يا أستاذ سأجلب لك ركوة قهوة مع فنجان أضافي …
-شكراً تفضل بالانصراف … وأنا بانتظار قهوتك
جلس الأستاذ حسن خلف طاولة المكتب وبدأ بترتيب الأوراق المتناثرة أمامه … تنهّد الأستاذ حسن بعمق وهو ينظر بحيرة إلى زائر الصباح الذي اقتحم خلوته لكنّ “جلال” استمرّ في كلامه وسأله:
-أحقاً أنت عاشق؟ ولم يبق لك سوى عام واحد وتتقاعد من الخدمة فماذا تركت للشباب إذاً؟
-لماذا تسأل؟ وهل يحق لك ذلك؟ أم أنت تعترض؟
تبسّم المهندس جلال واستمرّ يرتشف القهوة.
وهناك مشاهد حواريّة تبدو أقرب إلى الدهشة والابتسام لما فيها من سذاجة الأشخاص، كما في قصة ” المحقق”.
تلك كانت جولة ممتعة أنقص من تواصل جمالها بعض الهنات اللغوية والاستعمالات المجانبة للصواب، وكان يجدر بصاحبها أن يلتفت إلى ذلك قبل تقديمها للمطبعة وطرحها للقرّاء، والمجموعة خطوة متقدمة يدخل صاحبها بثبات في هذا العالم الجميل الذي أحبّه .
رقم العدد ١٦٠٢٥

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار