بقلم عبد الخالق قلعه جي
من منا لم يُفتن بتلك الحركات الرائعة التي أداها الكبير صباح فخري في أحد لقاءات البرامج المنوعة المتلفزة وهو يؤدي السماح على أنغام موشح “حير الألباب”.. رسْمٌ للنغم والإيقاع.. الريشة فيه أياد، وما فوقها، وسائر جسد.. ولوحةٌ لا دافنشي استطاعها.. ولا جاءت عليها قواعد العشق الأربعون.
كأنها فضاء من نشوة وانعتاق، سعت إليها سبابة مرسلة وإبهام.. وأصابع وسطى وخنصر مطويات.. إلى ذات اليمين، تنتقل أياد وأقدام، وإلى شمال.. لست أدري هل الجسد يغني.. أم الشفاه خافقة بما تفيض به الروح ثملى.. حقاً لقد حير الألباب، لا، بل سلبها وتركنا أسارى.. بدون كأسٍ.. وسكارى.
لعلها أيضاً مازالت في البال والذاكرة.. لوحات ” السماح ” الجميلة البديعة التي رافقت حلقات برنامج نغم الأمس، وقدم فيها صباح فخري أكثر من مئة وثلاثين أغنية، في كافة القوالب الغنائية الحلبية.. من موشح وقد وموال وغيرها، فشكَّلت مشاهد بصرية حركية نغمية ممتعة، وقد “بدت من الخِدر” في باحة قصر العظم بدمشق وأرجائه.
في كتابه “عمر البطش أمير الموشحات ورقص السماح” الذي أصدرته وزارة الإعلام في مهرجان الأغنية السورية العاشر بحلب، يذكر الأديب الباحث عبد الفتاح قلعه جي: أن السماح رقص جماعي يؤدَى في تشكيلات ونغمات وإيقاعات وخطوات متعددة، يقوم على التفنن في التشكيل الحركي لمجموعة الراقصين والراقصات، ويكون على شكل وصلات تُغنى فيها القدود والموشحات.
تتنوع تشكيلات رقص السماح.. فمنها الصف الواحد، الساكن والمتحرك ومنها الصفان وأربعة صفوف، للتقابل أو التعاكس ومنها الدائري.. دائرة من الراقصين.. يضاف إليها أخرى داخلية أصغر أو متجاورة.. وغيرها من التشكيلات والتكوينات المتعددة التي تؤدَى بمنتهى المهارة والليونة الجسدية والانسيابية والجمال، في تكامل فني أخَّاذ بين الموسيقى والغناء والحركة.
نقلاً عن الأستاذ أدهم الجندي، يذكر جميل ولاية في كتابه حلب بيت النغم: أن رقص السماح يدين لمبتكره الشيخ عقيل المنبجي، وهذا مأ أكده أمير الموشحات وصاحب رقص السماح في القرن العشرين، الشيخ عمر البطش، الذي أخذ هذ الفن عن أحد أساتذته الشيخ صالح الجذبة، وورَّثه لعدد من تلاميذه.. بهجت حسان.. حسن بصال.. عبد القادر حجار وغيرهم.
بعض المراجع التاريخية، تعتبر أن رقص السماح ارتبط بفاصل اسق العطاش.. درة حلب الغنائية.. وهي بذلك ترجع نشأته إلى الزوايا والتكايا ومنها إلى الحفلات والمنتديات الفنية، بعد أن أصبح فناً قائماً بذاته له خصائصه ومميزاته.
يعود الفضل في حفظ فاصل اسق العطاش وانتشاره إلى إذاعة حلب التي قامت بالتسجيل الأول له بأشراف الموسيقي توفيق الصباغ… أما التلفزيون العربي السوري فقد قام بتصوير هذا الفاصل عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين ضمن برنامج “مع الموسيقا العربية” الحلقة 25 وهو من إعداد وتقديم وإخراج جميل ولاية.. كما أعيد تصويره أيضاً عام ألف وتسعمئة وسبعة وتسعين في برنامج “فنون الطرب في حلب” من اعداد وتقديم القدير نذير عقيل.
في دوراته الأولى، قدم مهرجان الأغنية السورية فاصل “اسق العطاش” بإشراف الموسيقي المايسترو محمد قصاص، وبمشاركة عدد من الأصوات الحلبية المعاصرة آنذاك وذلك في صالة معاوية.. كما قُدم الفاصل على مسرح قلعة حلب مع احتفالات انتصاراتها عبر أصوات شابة قبل عدة سنوات.
اسق العطاش، كان مسك السماح لبداية الاحتفالية التي أقامتها وزارة الثقافة مسرح حلب القومي.. لوحات فنية من ثقافات العالم.. تحت عنوان “عندما يكون للرقص صوت” قدمتها كل من فرقة كارني وفرقة حكمت للرقص المسرحي وفرقة شوشي للفلكلور الأرمني، وذلك احتفاء بيوم الرقص العالمي، على مسرح دار الكتب الوطنية الأول من أيار الجاري.
عشر لوحات قدمتها الفرق المشاركة، بدأتها فرقة حكمت مع رقص السماح برؤية معاصرة على أنفام متتاليات اسق العطاش من حفل قلعة حلب.. لتقدم بعدها لوحات عالمية شهيرة من رقص الفالس والتانغو والباليه والرقص الهندي والاسباني والفلكلور الأرمني ولوحتان للرقص الشعبي مع بانوراما الورد وبانوراما المحافظات..
مع لوحة الرقص الهندي ومن أعماق الذاكرة البعيدة، جاءني صوته – المهاتما غاندي – وهو يقول:” يجب أن أفتح نوافذ بيتي لكي تهب عليه رياح كل الثقافات، لكنني أرفض أن تقتلعني ريح أي منها من جذوري”.
رْجعنالكْ يا بلادي يا أحلى الأوطانْ
يلي سهولك مليانة شْكالْ والوان
نرجع ونبوس الأرض الْ كلها ريحان.
. نحميكِ ونداريكِ بعزم وإيمان.
أمسية رائعة كانت، من حيث التنوع والاختيارات والسوية العالية التي قُدمت في معظم اللوحات ومن حيث كثافة الجمهور وتفاعله.. ما يعكس ذهنيةً واعدة للعمل ورغبةً طموحة منتَظَرة، لتقديم ما نأمل أن يليق بعراقة مسرح حلب وريادته، وبأسمائه الكبيرة التي أسست له ونهضت به وأعلَتْ خشبته عبر مئات من السنين.. وديعة بين يديك الآن وأمانة.. رنا ملكي.. اللمسات كانت حاضرة.. كان للرقص صوت.. وقد وصل.