بيانكا ماضيّة
في جلسة ضمّتني مع صديقي أحد جرحى الجيش العربي السوري في إحدى قرى اللاذقية، حدثني عن عشقه لحلب، وأن لهذه المدينة معنى عميقاً في داخله. تحدثنا عن زمن سيف الدولة الحمداني وبلاطه، وكيف تزاحم الشعراء والمفكرون والأدباء على بابه، ومنهم المتنبي والنحوي ابن خالويه المعروف، والفيلسوف الشهير الفارابي، وابن عمه أخو زوجته الشاعر الشهير أبو فراس الحمداني، فارس السيف والقلم، وأشار إلى أن الصاحب بن عباد قد قال فيه: “بدئ الشعر بملك وختم بملك” وكان يقصد بالأول امرأ القيس وبالثاني أبا فراس الحمداني.. أدهشتني وأفرحتني ذاكرته الوقّادة وحفظه للعديد من القصائد لغير شاعر من شعراء ذاك البلاط، كان يتحدث عن تلك الأمجاد الغابرة، وينتشي كأنه كان معهم.
تحدثنا عن العملة التي كان يسكها سيف الدولة لمادحيه من الشعراء، عن حلبة السباق التي كانت تسوّر القصر، ووجدت أن صديقي الجريح من معركة الغوطة يحفظ أشعار المتنبي عن ظهر قلب، وذكرني بالقصيدة التي قال فيها المتنبي معاتباً سيف الدولة أمير حلب:
واحر قلباه ممن قلبه شبم/ ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي أكتم حباً قد برى جسدي/ وتدعي حب سيف الدولة الأمم.. إلى أن قال:
الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم…
وذكّرته بقصيدة أبي فراس بعد أن وقع في الأسر:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر/ أما للهوى نهي عليك ولا أمر… بلى أنا مشتاق وعندي لوعة/ ولكن مثلي لا يذاع له سر..
وفيها قد ذكّر قومه بتلك المكانة العظيمة التي هو عليها، فقال مواسياً نفسه:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهمُ/ وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
وأدمعت عينا صديقي العسكري، وأدمعت عيناي معه، ولكني واسيته بأن هذه الجراح التي تؤلمه ستشفى قريباً بنصرنا المحتم على أعدائنا، قال لي:
أنتظر أن أشفى منها كلها لأني سأعود إلى ساح القتال لألقن كل من يحارب اليوم سورية درساً لن ينسوه، هذا إن بقوا على هذه الأرض، سيخرجون أشلاء أشلاء، أقسمنا وهاقد اقترب النصر الأخير.
شددت على يديه وقبلته من جبينه ومن مكان الجرح في هذا الجبين، وختمت حديثنا بالقول: أزف الموعد، واقترب الخلاص، فضحك ضحكة هزّت الفضاء حولنا، ضحكة سيكتبها التاريخ السوري في نهاية أسطورة الحرب على السورية.