الجماهير || أسماء خيرو..
بأنامل خبرت الخشب لأكثر من ستين عاماً، يواصل الحرفي أحمد جنيد الملقب (أبو عبدو)، فنان الحفر على الخشب، عمله محوّلاً بإزميله قطع الخشب الصماء إلى لوحات فنية نابضة بالحياة، تتجلى فيها روعة الجمال الهندسي والنباتي، لتشهد على مهارة استثنائية.
فمنذ أن كانت المهارة اليدوية سيدة الحرف، بدأ الحرفي أبو عبدو رحلته في عالم الحفر على الخشب عام 1965، وحتى يومنا هذا، يواصل مسيرته المهنية متمسكاً بإرثه، رافضاً الاستعانة بالآلات الحديثة، ليصنع بيده الماهرة تحفاً فنية تنبض بالحياة من قلب الخشب.

• مهارة فنية وتكيّف
من ورشته المتواضعة الكائنة في حي الحمدانية، كان لقاء ” الجماهير” بالحرفي جنيد، الذي قال:
“احترفت المهنة منذ نعومة أظفاري، أحببتها كونها مهنةً تُبرز المهارة الفنية. شغفي العميق بها كان ولا يزال وقوداً يحركني للاستمرار وإنجاز قطع أثاث محفورة لمن يرغب من الزبائن – من طاولات وغرف نوم وكراسي وتيجان.”
وأضاف: “للحفر على الخشب أنواعٌ عدة، منها الحفر الصيني والإسباني والفرنسي والعربي. لكن للأسف، في وقتنا الحالي وبعد دخول الآلات، أصبحت مهنة الحفر اليدوي لا تدرُّ رزقاً كافياً، حيث تضاءل الطلب عليها، مما دفعني إلى التكيّف عبر العمل أيضاً في التنجيد وإصلاح المفروشات لضمان استمرارية العيش.”

• من الهواية إلى الاحتراف
لم يرث الحرفي جنيد المهنة عن والده، بل أتقنها من خلال التدرب والتعلّم على يد معلمي “كار” الحفر على الخشب في مدينة حلب، ليبدأ مسيرته الحرفية في حقبة كانت فيها صناعة الأثاث المنزلي المحفور يدوياً تحظى بتقدير كبير في المجتمع الحلبي.
يؤكد الحرفي جنيد بحماس:
“في الحقيقة، لم أتعلم هذه المهنة من والدي، بل أتقنتها وأصبحت محترفاً بفضل معلمي في الكار. وما جذبني إلى احترافها هو ما تحمله من إبداع وجمال أخّاذ. فهي حرفة تعتمد على الخيال الخصب، حيث يكون النقّاش على الخشب كالفنان الذي يرسم لوحات ساحرة بتفكيره المبدع. وأنا، مثله تماماً، أطلق العنان لمخيلتي وأنقش على الخشب أعمالاً فريدة.”
• الخيال أداة سحرية… إزميل يروي حكايات
يشرح الحرفي جنيد آلية العمل فيقول:
“أبدأ بأخذ القياسات، ثم أرسم التصميم على الكرتون، وأتابع مع النجار لتنفيذها كما تخيلتها. ثم أرسل القطع المنتهية من الحفر إلى محل النجارة، وهناك تبدأ عملية الحفر والطلاء أو بخّ القطع بالورنيش اللماع لمنحها اللون المطلوب، وغالباً ما يأخذ لون اللكر الشفاف. وكل قطعة تستغرق وقتاً مختلفاً عن الأخرى.”
يتقن الحرفي جنيد حفر جميع أنواع الزخارف، من الأشكال الهندسية الدقيقة إلى الزخرفة النباتية المعقدة، فضلاً عن أنه يبتكر تصاميمه الخاصة. فبعض القطع ينحتها مباشرةً من وحي الخيال دون رسم مسبق، والبعض الآخر يُنفَّذ بناءً على صورة يحضرها الزبون، مستخدماً الأدوات متنوعة المقاسات (الأزاميل) والريش المعدنية التي يحتفظ بها منذ نعومة أظفاره، كأنها امتداد لمهارته الحرفية.
يفضل الحرفي جنيد لعمله استخدام خشب الجوز الشامي والزان والسنديان لجودة هذه الأنواع ومتانتها، مستذكراً الأيام الخوالي التي كانت فيها جودة العمل مقياس المهنة، والزبون الذي كان يجذبه فن الحفر. أما اليوم، فقد غيّرت الآلات والمنافسة المشهد، ورغم قدرته على تنفيذ تصاميم مختلفة، يأسف لتراجع الإقبال على اختيار الأثاث المنزلي المحفور يدوياً.
• مهنة بلا وريث
بعد ستة عقود من الإتقان والمحافظة على المهنة، لم يجد الحرفي جنيد وريثاً لحرفته (الحفر على الخشب) بين أبنائه، الذين اختاروا مسارات مهنية مختلفة تماماً. بمرارة يقول:
“لم يرثها أحد مني، ولم يرغب أحد بإحيائها. ويرجع ذلك إلى التغيرات الجذرية في السوق، حيث بات هذا النوع من الأثاث حكراً على أصحاب المقدرة المالية العالية، مما أثر سلباً على استمرارية المهنة وجاذبيتها للأجيال القادمة.”
قصة الحرفي جنيد تختزل تحولات واقع الحرف اليدوية في مدينة حلب. فبينما يصارع هو وزملاؤه القلائل لبقاء المهنة، يصبح سؤال الحفاظ على هذا الإرث الفني الجمالي مسؤولية مجتمعية ملحّة قبل أن يختفي آخر حفاري الخشب اليدويين، وتُطوى صفحة من تاريخ حلب الفني العريق.