بقلم: بلال محمد الشيخ…
في بلدة اليعقوبية، الواقعة في ريف إدلب الغربي، أعيد افتتاح كنيسة القديسة آنا بعد أربعة عشر عاماً من الإغلاق، في حدث ترأسه المطران ماكار أشكاريان، مطران الأرمن الأرثوذكس لأبرشية حلب وتوابعها. هذا الحدث ليس مجرد طقس ديني، بل لحظة رمزية تُعلن أن سورية، رغم الجراح، قادرة على التعافي بكل مكوناتها.
لكن قبل أن نحتفي بالعودة، لا بد أن نواجه الحقيقة لماذا أغلقت الكنسية؟ النظام السوري البائد جرّ البلاد إلى حرب طائفية ممنهجة، سعى من خلالها إلى تصوير نفسه كحامٍ للأقليات، ليكسب ولاءها ويبرر قمعه تحت ذريعة “حماية التعدد”. لقد تم تسييس الطوائف، وتحوّلت الهويات الدينية إلى أدوات اصطفاف، بينما كان الشعب السوري، في جوهره، قادراً على التعايش دون حروب.
إدلب، التي شوهتها بعض الروايات الإعلامية بوصفها “راعية للإرهاب”، هي في الواقع نموذج حي للتعدد السوري. فيها عاش السنة والشيعة والدروز والمسيحيون جنباً إلى جنب، في بقعة واحدة، يتشاركون الأسواق والمناسبات وحتى الأحزان. واليوم، مع إعادة افتتاح الكنيسة، تتجلى الحقيقة: إدلب ليست استثناءً، بل امتدادٌ لسورية المتنوعة.
الهوية الوطنية فوق الهويات الفرعية
في خضمّ الحرب، حاولت أطراف متعددة أن تُعيد تشكيل الهوية السورية وفق مصالحها الضيقة، فتمّ تضخيم الانتماءات الطائفية والمذهبية على حساب الانتماء الوطني الجامع. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن السوريين، قبل الحرب، كانوا يعيشون في ظلّ تنوع مذهبي وديني دون أن يتحوّل هذا التنوع إلى تهديد.
الهوية الوطنية ليست نقيضاً للهويات الفرعية، بل هي الإطار الذي يحتويها ويمنحها شرعية في سياق جامع. لا نريد ذوباناً في هوية واحدة تُقصي الخصوصيات، بل نسيجاً متماسكاً من خيوط متعددة، كل منها يحتفظ بلونه، لكنه ينسجم مع باقي الخيوط ليصنع لوحة سورية متكاملة.
إن إعادة بناء سورية لا يمكن أن تتم عبر فرض هوية أحادية، بل عبر الاعتراف بالتعدد كمصدر قوة. وهذا يتطلب خطاباً وطنياً جديداً، يُعلّم الأجيال أن الاختلاف لا يعني الانقسام، وأن الانتماء إلى الوطن يجب أن يسبق أي ولاء آخر.
في هذا السياق، تصبح المساجد والكنائس، لا مجرد أماكن عبادة، بل رموزاً لهوية وطنية جامعة، تُذكّرنا بأننا، مهما اختلفنا في العقيدة، نتشارك الأرض والذاكرة والمستقبل.
سورية مشرعة للجميع: لا أمن مع الاستقواء بالخارج
من أخطر ما أفرزته سنوات الحرب هو تحوّل بعض القوى السياسية إلى أدوات في يد الخارج، تستقوي به لتحقيق مكاسب آنية، دون اعتبار لوحدة البلاد وسلامة شعبها.
الاستقواء بالخارج، مهما كانت الذريعة، يُهدد الأمن الوطني ويُضعف قدرة السوريين على صياغة مستقبلهم بأنفسهم. فحين تُصبح القرارات المصيرية مرهونة بإرادة خارجية، تفقد سورية سيادتها، وتتحول إلى ساحة صراع لا وطن.
لكن هذا لا يعني رفض التضامن الدولي أو الدعم الإنساني، بل يعني أن الحل يجب أن يكون سورياً، نابعاً من إرادة وطنية جامعة، لا مفروضاً من فوق. سورية يجب أن تكون مشرعة للجميع، دون استثناء، لكن وفق شروط السيادة والاحترام المتبادل، لا وفق منطق الإملاء أو التبعية.
إن إعادة افتتاح كنيسة القديسة آنا في إدلب هو إعلان بأن سورية قادرة على التعافي، لكن هذا التعافي لا يكتمل إلا حين تُغلق أبواب التبعية، وتُفتح نوافذ الحوار الداخلي. فالوطن لا يُبنى بالوصاية، بل بالإرادة الحرة، والاعتراف بأن سورية ليست ملكاً لطائفة أو حزب، بل بيتاً لكل من يؤمن بها وطناً نهائياً.
نحو مشروع وطني لترميم النسيج السوري
إعادة النسيج الاجتماعي ليست شعاراً، بل مشروعاً حضارياً يتطلب:
– تفكيك سرديات الخوف التي غذّاها النظام، واستبدالها بسرديات جامعة تُعيد الاعتبار للضحايا من كل الأطياف.
– إحياء الرموز المشتركة كالمساجد والكنائس، لا كمواقع عبادة فقط، بل كمؤسسات ثقافية واجتماعية.
– إطلاق مبادرات شبابية عابرة للطوائف تعيد بناء الثقة وتكسر الصور النمطية.
– إصلاح المناهج التعليمية لتُعلّم الأجيال أن التعدد ليس تهديداً، بل مصدر قوة.
– تمكين المثقفين والكتّاب من صياغة خطاب وطني جديد، يُنصف الجميع ويُعيد الاعتبار للذاكرة المشتركة.
افتتاح كنيسة القديسة آنا هو لحظة تعافٍ، لكنها ليست كافية ما لم تتحول إلى مسار وطني جامع. فلنحافظ على المساجد عامرة، والكنائس مضيئة، والقلوب مفتوحة. فهكذا فقط تُشفى الأوطان، وتعود سورية حرّة، لا بالشعار فقط، بل بالفعل.