أسامة سعد الدين…
ليست حلب مجرّد مدينةٍ على خارطة الوطن، بل هي ذاكرة التاريخ ومهده، ووجدان الإنسان السوري الذي لم يعرف الانكسار يوماً. مهما تبدّلت العصور وتعاقبت المحن، تبقى حلب “ستّ الكل” التي تسكن الوجدان، مدينة العزّ والإرادة الصلبة، ومفتاح النصر الذي أعاد للأرض أنفاسها وللأمل وجهه المضيء.
منذ فجر التاريخ كتبت حلب مجدها بجهد أبنائها، فكانت أولى المدن التي شهدت صعود الحضارة، ومركزاً للتجارة والعلم والفن، ومن قلعتها الشاهقة التي تتحدى الزمن، إلى أسواقها القديمة التي حملت عبق الشرق وثراء البشر، ظلت المدينة رمزاً للصمود والإبداع معاً.
في زمن المقتلة التي قادها النظام البائد، كانت حلب أحد خطوط الدفاع عن الكرامة، وقدمت أغلى التضحيات، واجهت القذائف والجوع والدمار، وهُجّر الآلاف من أهلها دون ذنب أو خطيئة، ليس على أيدي العدو الصهيوني، بل بسواعد “حماة الديار”، العالم شاهد على قوافل من “الباصات الخضر” أقلت الآلاف من أهل حلب باتجاه المجهول،في شتاء عام 2016 ، لكنّها لم تفقد عزيمتها، قاومت، نزفت، ثم نهضت في شتاء 2024 من تحت الركام لتعلن أن النصر يُصنع بالإصرار والإيمان لا بالاستبداد و”البراميل” والأسلحة البالستية.
ومن بين حجارتها التي يعاد بناؤها بالحلم والعمل، خرجت رسالة عميقة مفادها أن الحياة أقوى من الموت، وأن الإرادة الوطنية أقوى من كل حروب الطغاة، تمضي حلب في طريق الإعمار، كما مضت في طريق التحرير، تعود مصانعها للتدوير والإنتاج، وتستعيد مدارسها ومشافيها العافية، وتعود الحركة إلى أسواقها التي سكتت طويلاً.
في كل زاوية فيها حكاية بطل، وفي كل شارع شاهد على صبر لم يعرف الحدود، حلب لم تكن يوماً مدينة فقط، بل كانت مدرسة وطنية في الانتماء والفداء، منها خرجت الأصوات التي غنّت للنصر، ومنها ستخرج من جديد أيادي البنّائين الذين يخطّون فجر المستقبل.
فكما كانت بوابة العروبة والتاريخ، ستكون دوماً جسر النهضة والتجدد، هكذا تبقى حلب، ستّ الكل، النبض الذي لا يهدأ، والمفتاح الذي به تُفتح أبواب المجد والنصر، رمزاً لكل السوريين الذين آمنوا أن الوطن يولد من رحم المعاناة، وأن الحضارة لا تموت مادام في الأرض من يحبها كما أحبّوا حلب.
حلب ستّ الكل… تقف اليوم شامخة لتبدأ مرحلة جديدة من البناء، تحت شعار الحملة الوطنية “حلب ستّ الكل”، دعوة صادقة لكل سوري أن يشارك في معركة الإعمار كما شارك من قبل في معركة البقاء وانتزاع الاستبداد، عرفت حلب الدمار منذ قرون، حين غزتها النكبات وحاولت الحروب أن تطفئ نورها، لكنها في كل مرة تنهض أقوى، كطائر الفينيق الذي يولد من رماده، في أوج الآلام، أبت أن تنكسر، من تحت الردم خرجت الحياة، ومن بين الحجارة تفجّر الأمل، لتقول كما قال المتنبي يوماً واصفاً بهاءها:
“حلبٌ حصنٌ، وقلعتها تاجٌ على رأس الممالك.”
إن المشاركة في الحملة الوطنية المقبلة مسؤولية جماعية، لأن إعمار حلب ليس مشروع بناء فحسب، بل مشروع حياة وأمل. ما تهدم يُعاد، وما أُحرق يُزرع من جديد، وما غاب سيعود أكثر جمالاً بجهد أبنائها ومحبيها. فلنكن جميعاً يداً بيد، نعيد لحلب وجهها المشرق، ونجعل من كل طوبة تُرفع فيها رمزاً للإصرار والتحدي، ولتعود المدينة ستّ الكل، منارة عربية لا تغيب، ومفتاح النصر لكل السوريين.
قد يعجبك ايضا