تفاصيل دقيقة معجونة بآلام الحرب في لوحاته وحكاية عشقه لحلب .. الفنان التشكيلي عيسى لـ ” الجماهير ” : لوحاتي جسدت الأحياء القديمة بناسها وعاداتها والمهن المتداولة فيها

الجماهير – بيانكا ماضيّة
تراجيديا الحرب! هو العنوان الأبرز للوحات الفنان التشكيلي برهان عيسى الذي وثّق خراب مدينة حلب ودمارها. الأشلاء المتناثرة لتفاصيل المكان وأشيائه، هذا الكم الهائل من فوضى المكان الذي آلت إليه حارات حلب العتيقة، هذه المحال التجارية التي كانت يوماً ما تزخر بالحياة وتحوّلت إلى ركام، هذا العشق الدفين لتاريخ مدينة قديمة لم يبق فيها حجرٌ على حجر، كل هذا نجده مجسّداً لدى فنان يعشق التراث الذي تفوح رائحته في لوحاته.
– مفردات لوحات برهان قبل الحرب
قبل الحرب احتفت تلك اللوحات بزخم الحياة في أسواق حلب، بتراثها، بتلك الأشياء المبهجة لعين الناظر، بالمهن التراثية القديمة التي كانت طابع تلك الأسواق! البُسط القديمة المتدلية على الحبال، والمعروضة للزائر، البائعون الذين تلمس في وجوههم وأجسادهم استقراراً نفسياً وراحة بال، الألوان المتعددة لأقمشة تفوح منها رائحة التراث، بائعو تلك الأقمشة، الصابون الحلبي الذي عششت رائحته في اللوحات، النحاسيات التي عرضت في واجهات المحال، الأزقة المرصوفة بالأحجار، والتي كل حجرة فيها تنطق باسم حلب، الأحياء القديمة المفعمة بروح الماضي..هي مفردات لوحات برهان الذي يرسم بروحه تفاصيل عشقه للمكان. “أحياؤنا التي تبعث الدفء والحنين إليها ما أجملك أيتها الأزقة” ” لأسواقنا متعة لا توصف، ففي زيارتك لها ترى الناس الطيبين، كل منهم يجلس في مكانه ليسترزق، ضاع كل الجمال الذي كان! نتمنى والأمنية صعبة التحقيق في حياتنا، لكنها ليست مستحيلة”. هكذا يعلّق الفنان على بعض لوحاته وهو يعرضها في صفحته الشخصية.

سوق الزرب، سوق النحاسين، سوق السجاد، سوق الزهراوي، وغيرها من أسواق، خانات حلب التي تمتلئ بالبضائع وبالناس، وبحركة الحياة، ما إن تراها في لوحاته وخاصة في مراحلها الأولية بقلم الرصاص- وكم يعشق برهان أن يصوّر تلك المراحل الأولية- حتى تكاد تقول عنها إنها لوحات ناطقة، إنها الصورة الدقيقة للتفاصيل، الصورة الفوتوغرافية الملتقطة للأسواق القديمة في حركتها وانتعاش الحياة فيها، كل المنمنمات رسمها برهان بدقة، حتى خيوط السجاد المزركشة تكاد تراها بعينيك، فأي إبداع هذا الذي تتسم به لوحات برهان عيسى؟! إنه إبداع الفنان العاشق لمدينته حلب بكل ما كانت تزخر به من حضارة وتراث وتاريخ!.
– لوحاتي دخلت عمق الماضي والتراث
يقول عن احتفائه بهذا التاريخ: “لوحاتي دخلت عمق الماضي والتراث، فجسدت الأحياء القديمة بناسها وعاداتها والمهن المتداولة فيها، خاصةً المهن التي تتجه اليوم في طريقها للانقراض، وأعمالي تنتمي إلى المدرسة الواقعية؛ لأنها المدرسة الأنسب لشخصيتي، ولأنها السبيل إلى إيصال فكرتي للمتلقي بأن ثمة مهناً عديدة متوارثة عن الجدود تزول رويداً رويداً، إضافة إلى العديد من الحارات الحلبية القديمة التي تتعرض للتشويه أمام مرأى الجميع”.

قال ذات يوم: “الفنان حساس للغاية لذلك عندما لا ينال حقه من التقدير فإنه يشعر ببعض الإحباط، ومن ضمن العوامل التي تساهم في تخريب الذوق الفني وجود بعض القائمين على الفن غير مؤهلين لإحيائه فهذا يؤدي إلى تراجع الحركة الفنية بشكل غير مباشر” وحين سألته اليوم عن نظرته لتعامل الجهات المسؤولة عن الفن مع الفنانين، أجاب: “الفنان والكاتب والموسيقي والرسام والنحات جميعهم يحتاجون لدعم، لكن ظروف البلد الحالية تعيق الجهات المسؤولة، فزادت إعاقتهم إعاقة، مذ متى كان الفنان ينال حقوقه؟! كل واحد منا سيؤقلم نفسه على ما هو موجود ليستمر في العطاء!”.

– تفاصيل دقيقة معجونة بآلام الحرب في لوحاته
في النبذة المختصرة لبرهان عيسى على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي كتب: “كتاب مفتوح للآخرين مقروء بكل صفاته” وهو كذلك فعلاً، وتستطيع أن تدرك صفاته وأخلاقه وإنسانيته من خلال تناوله آلام الناس ومعاناتهم، وخاصة معاناة المرأة في الحرب، إذ جسّد الحالات الإنسانية التي نتجت عن وحشيّة العدوان الغاشم على هذه البلاد، فترى التفاصيل الدقيقة المعجونة بآلام الحرب في لوحاته، ذاك الفقر المدقع لنساء جعلتهن الحرب على قارعة الطريق مع أطفالهن، الأم المسنّة المتكئة على جدار لربما لم يبق لديها سوى هذا الجدار لتستند إليه، الأطفال الذين جعلتهم الحرب يعملون أعمالاً شاقة، كل هذا يجعل الفنان برهان فناناً غاضباً فعلى الرغم من هدوء الألوان المبثوثة على القماش الأبيض إلا أننا نلمح هذا الغضب في عينيه، فكم من صورة نشرها له في صفحته تبدي تلك النيران التي تغلي في داخله، حتى عيناه ففيهما هذه الثورة على ما آلت إليه أوضاع الإنسان الذي عانى وتألم من جراء نيران الحرب. في إحدى اللوحات رسم برهان نفسه ضمن لوحته وهو يتأمل مشهد خراب مدينته، ظهره إلى عيني المتلقي، ووجهه إلى الزقاق الذي تحول كل شيء فيه إلى ركام، هذا الصمت في اللوحة ليس صمتاً بمعناه اللغوي بل صمت الإنسان المنفجر من الدمار.

هذا الفن الصامت يحكي حكايات وقصصاً لحياة كانت تضج بها أسواق حلب، هو فنان بارع في فتح نوافذ من صوت لهذا الصمت، حكاياته التشكيلية ليس فيها انقطاع فقد أخرج المدينة القديمة من سكونها اليوم إلى الضوء، عاكساً فلسفة الحياة التي تسم مدينة حلب بتاريخها وعبق تراثها، أخرج كل التفاصيل إلى الحياة ليقول: حلب مدينة لاتموت!.
رقم العدد 15736

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار