الجماهير- بيانكا ماضيّة
رائحة البخور التي كانت تضوع في المكان، وكانت سُحُبه تسبح في الطبقات العلوية منه كغيوم متناثرة، والصليب الذي على يمين الهيكل والذي يعلن التحوّل العظيم من الإنسانيّة إلى الإلوهيّة، ليغيب سيدُ العالم بين الغيوم مرتفعاً عن أعين البشر، لم نرَها اليوم.
كنت فيما مضى أجيل النظرَ في أرجاء المكان قبل البدء بالصلاة، أرفع رأسي نحو القبّة، حيث الرسوم تمتد على كامل مساحتها.. السيد المسيح بردائه الأبيض راسماً بإصبعيه إشارة البركة، وحوله الملائكة تطير بفرح عظيم..
فيما المرتلون في الطابق العلوي ينشدون تراتيل المحبة والسلام.. كنت أصيخ السمعَ لانتقالهم من مقام إلى مقام، ومن ترتيلة إلى أخرى.
في تلك اللحظة تذكرت أحد المطارنة المخطوفين، وكان كلما خطر على بالي تخيّلته جالساً على بساط يخبئ بين ثنايا ثيابه صليباً صغيراً، يجلس بالقرب منه مطران آخر، أو رجل دين مسلم، يصليان معاً في صمتٍ للإله الواحد أن يخلصهما من محنتهما، وحولهما غير مسلح من مسلّحي داعش، أتخيّلهما غير خائفين ولا وجلين، ورحت في تلك اللحظة أصلي ليفكّوا سراحهما وسراح كل المخطوفين، فينطلقوا أحراراً من براثن شيطان هذا العصر.
ويطلُّ شيخٌ آخر إلى ذهني، تذكرت دموعه المذروفة في كل صلاة، صوته المبحوح، دعواته لحفظ هذي البلاد، صلاته المفعمة بالإيمان، ولحظة التفجير التي طالت تلك الصلاةَ، فقطعتها إرْباً إرْباً.
وتتوالى مشاهد القتل والذبح في مخيلتي، كنت أسمع جميع الصرخات والأقوال التي ملأت وتملأ العالم: مشهد قطع رأس الحسين وصرخته: “هيهات منّا الذلة” مشهد قطع رأس أحدهم لأنه لم يدفع الجزية وصيحة أبيه “الله أكبر عليكم”، مشهد الطفلة الباكية المصلوبة على قضبان الحديد وهي ترى أهلها يسبحون بدمائهم أمامها، وصيحتها المدويّة: “ماما”!.
“ماما” هذا الاسم المقدس الذي سلبوه قداسته؛ ليرفعوا من شأن الذكر، الذكر الذي كان يعبد الربّة، لا الربّ، كما جاء في أساطير الأولين، الأساطير التي استقت منها الأديان روحها، وبدأ مذاك الزمن نسف الحقائق، وبدأ الخراب والدمار.
مشهد الأم يتوالى في هذه الحرب، وتذكرت تلك الأم التي قَتَل ابنَها رفاقَه بعد خروجه من بيته، وسؤالها: “لمَ الحقد يملأ القلوب؟!” وتذكرت مشهد آلام السيد المسيح حين دقّوا المسامير في يديه ورجليه، ومن ثم رفعوه على الصليب وصرخته: “إلهي إلهي لم تركتني؟!” ومشهد بكاء السيدة العذراء وهي ترى ابنَها مصلوباً على الخشبة، وقوله لها: “لاتبكي يامرأة”!.ثم مشهد القيامة.
وأعود لأرفع بصري مرة أخرى نحو القبّة، وشعرت بعظمة تلك القيامة، ولكن أين توارت السيدة العذراء “الأم المقدسة”؟!.
-نؤمن بإله واحد، خالق السموات والأرض، وكل مايرى وما لايرى.. ويبدأ الجميعُ بترديد فعل الإيمان.
أفقت من شرودي بعد أن سمعت صوتَهم الواحد.. ورحت أردد معهم: نؤمن بإله واحد.. يغمر الكون بنوره، أما هم فلم يغمر عقولهم إلا الظلمة!.
وماذا عن تلك الآلهة التي كانت تُعبد منذ آلاف السنين؟! عبد الناسُ حينها آلهة عديدة وبنوا حضارتهم التي مازالت آثارها ماثلة أمامنا حتى يومنا هذا، وعبدنا نحن إلهاً واحداً، فيما راح من كفر بكل شيء يحطّم تلك الآثار التي تحمل عبق الماضي المقدس وتحمل الحقيقة.
-اخرجوا بسلام المسيح!.. هكذا أعلن الكاهنُ نهايةَ الصلاة.
وهكذا كان يعلنها في زمن مضى، واليوم، لا رائحةَ بخور تضوع في المكان، ولا سُحباً تسبح في الطبقات العلوية كغيومٍ متناثرة. حتى المصلّون لم يكونوا في ذاك المكان، لقد كانوا في بيوتهم، رائحةُ البخور موشومةٌ في ذاكرتهم، ومشاهدُ آلام المسيح يستذكرونها بصمتٍ ودموع وخشوع، وصيحةُ السيد المسيح، وهو مضرّج بعذاباته: “أنا عطشان!”! طعنوه بجانبه الأيمن، وأسقوه خلاً بدل ماء. مشاهدُ تمرّ أمامهم كشريط، وقد تمّ كلُّ ما ذُكر في الكتب القديمة! وفجّ النورُ من قبرِه وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وظهر للكثيرين، ثم ارتفع إلى السماء في مشهدٍ مهيبٍ تحفُّ به الملائكةُ من كل جانب.
رقم العدد ١٦٠٠٩