إعداد عبدالله حجار
نعت إلينا أنباء التواصل الاجتماعي بحلب وفاة الصديق صلاح الدين الخطيب في منتصف ليل الأحد 12 تشرين الأول 2020 عن عمر ناهز السادسة والتسعين إثر مرض الشيخوخة الذي ألزمه على البقاء في منزله في الأشهر الأخيرة وهو الذي لا يعرف السكون والجمود، يتنقّل بين أصدقائه الخلّص طيلة يومه، وقد حلّ به الاكتئاب يوم فارقنا رفيق دربه وزميله الدكتور محمود حريتاني قبل أشهر إلى دار البقاء رحمه الله.
ولد صلاح العام 1924 في معرّة النعمان، سنة تأسيس “جمعية أصدقاء القلعة والمتحف” التي سمّيت لاحقاً “جمعية العاديات”.
جاء حلب ودرس في مدرسة المأمون، وانتسب الى الحركة الكشفية التي أنشأته على محبة النظام والانضباط وخلقت فيه الشخصية القيادية الصارمة. انتسب الى دار المعلمين ولدى تخرجه عيّن موجّهاً تربوياً في ثانوية المأمون عدة سنوات. ثم تنقل بين إدارة رعاية الشباب والثقافة الشعبية والمركز الثقافي العربي ودار الكتب الوطنية. انتسب العام 1970 إلى جمعية العاديات وقاد بخبرته الواسعة في بيوت الشباب رحلاتها المنظمة بدقّة إلى أوروبا والبلاد العربية المجاورة بالإضافة الى الرحلات إلى المواقع الأثرية داخل سورية.
أحبّ التراث ومدينته حلب. كيف لا يحبّها وهو من سكّان حي الفرافرة الواقع شمال القلعة وقد مزّقه شارع الاختراق الممتد، بحسب المخطّط التنظيمي المصمّم من قبل المهندس أندريه غوتون العام 1954، من دوّار السبع بحرات إلى سرايا إسماعيل باشا والسجن القديم، ولم يبق من دار آل الخطيب سوى الايوان بقوسه الغني بالزخرفة الجميلة والغرفتين المجاورتين له وبعض الأقبية، والقطط الأليفة التي رأت في الأستاذ صلاح وأثاث بيته ملاذاً آمناً وعناية لا تؤمن لنزيل فندق ممتاز ذي خمس نجوم.
ونتيجة الحرب القذرة التي شنّت على سورية بدءاً من 15 آذار 2011 وعلى إثر سيطرة المسلّحين السلفيين على القسم الشرقي من حلب بما فيها منطقة “المدينة” والأسواق والجامع الأموي، هجر الأستاذ صلاح منزله في حيّ الفرافرة باتجاه غربي حلب متنقلاً بين منزل أولاد أخته ودار الفتاة اليتيمة.. وفكّر بالعودة إلى منزله المتهدّم والمنهوب بعد تحرير القسم الشرقي من حلب العام 2017.
مع الذكريات:
تعرّفتُ إلى الأستاذ صلاح عن قرب بانتسابي إلى جمعية العاديات العام 1970 وجمعت بيننا محبة السفر والرحلات وقد ضمتنا لجنتها. الأستاذ صلاح شخصية متميزة تفرض احترامها بالتزامها العدل والمساواة والالتزام بالنظام والانضباط بشكل دقيق وخاصة في دقة المواعيد. رافقته في أكثر من رحلة داخلية في القطر وفي رحلتين إلى الأردن الشقيق وإلى تركيا كان فيها نعم القائد المنظم والإداري الحازم. وعُرف بالوفاء والإخلاص لأصدقائه الذين بادلوه ودّاً بود، وظلّ يقوم بزيارتهم في بيوتهم التي سكنوا إليها لا يبرحونها عند تقدمهم في السنّ، يزورهم بحيوية الشباب وهو في مثل سنّهم، من أمثال الأستاذ سعد زغلول الكواكبي وعمر يحيى والدكتورين عمر دقاق ومحمود حريتاني. وطالما التقيتُ به في منزل الأستاذ سعد أيام الثلاثاء المخصّصة لاستقبال الأصدقاء كل أسبوع. كما كنت ألتقي به في مكتب “الجوّال” للسياحة والسفر وصاحبه الصديق فؤاد كنهوش رحمه الله.
ولا ينسى جمهور العاديات المحاضرة الحوارية التي أجراها معه الأستاذ تميم قاسمو بتاريخ6/10 /2010 تحدث فيها، وبكل شفافية وحميمية، وهو في السادسة والثمانين، عن ذكرياته في حي الفرافرة ومدرسة المأمون ورعاية الشباب والمنابر الثقافية والرحلات .. وهل هناك أحلى من استعادة شريط الذكريات الحلوة مع الرفاق! كانت العاديات، برفاق الدرب القدامى فيها، بيت الأستاذ صلاح وملفاه عند تقدّمه في العمر وقد عزّت الرحلات في الزمن الصعب.
جمع الأستاذ صلاح خواطره وتأملاته في كتاب نشره ووزّعه على الأصدقاء في آب 2004 بعنوان “صور من أطياف الحياة وخمسون عاماً مع الرحلات –لوحات رمزية” ضمّ 50 صفحة بدأها بآراء ستة من الأصدقاء أتبعها ب 32 خاطرة، تتألف الواحدة من بضعة أسطر ولا تتجاوز الصفحة الواحدة، سطّر فيها نفَس روحه وعصارة قلبه وخبرته في الرحلات والحياة والتأمل بثناياها مادياً وروحياً. كلمات من القلب بتوجيه العقل، وكأنّها بوح شعري فيه الوفاء والمعاناة والشك والرحيل والأمل ووهج الحياة… وكل ما جال في فكر مبدعها الطيب من شفافية وصدق ووفاء والتزام ورجولة. جمعها وهو في الثمانين من العمر من خبرته في الحياة ونصف قرن من الرحلات مع بيوت الشباب وجمعية العاديات. أراد بهذا الكتاب مشاركة أصدقائه ومحبيه، وهو الناسك المتوحّد في حياته الداخلية: ويسعدني أن أنقل ما كتبته له فيه بتاريخ 16/8/2004 بعنوان “لوحات رمزية”:
إنها نفسُ هائمة، شابتها مسحات حزن وضجّت فيها الأماني، تسلّحت بفضائل سامية في مقدّمتها حبّ الحياة والترحال والوفاء، وتسبيح الخالق فيما أبدع من إنسان وطبيعة وحيوان.
يطلب الوفاء فيجده في قطّ أليف رفيق عمر. لا يعرف سوى الصدق والاستقامة في تعامله مع الآخرين.
في صحبته متعة وأيّ متعة، وبخاصة في الرحلات واكتشاف ما لا نعلم من جمال طبيعة حبانا الله إياها في بلاده الواسعة.
وحدته الداخلية تشدّه إلى صحبة الأوفياء فيبحث عن أليف يبثّه أشواقه ويشاركه محبة الحياة، وهل السعادة إلاّ في المشاركة ولو في النظرة الواحدة نحو الجميل من مآثر الخالق في الطبيعة والمخلوقات!
سطّر روحه لشفافيتها وصدقها في هذه اللمحات الشاعرية، ضمن كلّ كلمة معاناة ودرّ ثمين ينكشف من محارة فيها أحياناً مرارة، لكنها شفافية طيبة صادقة وغير جامدة، لمثلها ثواب الجنّة حيث يقيم الصالحون وأنت مصدر للصالحين يا صلاح.
أخوك الذي استمتع برفقتك في الكثير من الرحلات، ويستمتع اليوم برحلتك الشاعرية هذه في لوحاتك الرمزية. (عبد الله حجار 16/8/2004)
وأسمح لنفسي أن أستعير أبيات الشعر الصادقة التي ودّع فيها الأستاذ محمد قجة صديقه الذي عرفه منذ أكثر من نصف قرن منذ كان مديراً لمدرسة المأمون:
إنّه العمر، جيئة ورواحُ نم قرير عينٍ بعدها يا “صلاح”
هكذا تعبر الليالي: سروراً أو ليالٍ فيها الأسى والنواحُ
غبتَ عنّا وكنتَ فينا المجلّي كلّ أعماله ندى وفلاحُ
فارسٌ صادق صفيّ أريب عشقته القلوبُ والأرواحُ
مرّ في رحلة الحياة نجيّاً خلقٌ قد سما وقولٌ صُراحُ
كان زين الرجال في كلّ أمرٍ منبتٌ تالدٌ ، وعقلٌ رجاحُ
إنّه الدهر قاهرٌ مستبدٌ كلُّ خطوٍ وراءهُ الأتراحُ
لو يفيدُ البكاءُ كنّا بكيناكَ دهوراً والدمعُ سيلٌ مباحُ
هذه سنّة الحياة : لقاءٌ وفراقٌ، وومضةٌ وسراحُ
سوف تلقى ذكراكَ فينا شراعاً ما لها عن هوى القلوبِ براحُ.
رحم الله الأستاذ صلاح، وقناعتي أن الجنّة تفتح أبوابها لأمثاله من الطيبين الذين يدوم ذكرهم العطر طويلا على هذه الأرض الفانية.
رقم العدد ١٦٢٠٩