الجماهير – عتاب ضويحي
الأسواق القديمة هي روح المدن وذاكرة المكان، تمنح فرصة التواصل مع التاريخ بشكل مباشر، وكأننا نسمع أحجار الجدران تروي لنا الكثير من الأسرار وحكايات الماضي.
وفي زمن ليس بالبعيد، كانت أسواق حلب التقليدية سيمفونية تناغم، تتيح خيارات تسوق مثيرة لزائريها، وملاذاً شيقاً للسياحة. خيوط رائعة من ذاكرة حلب الاقتصادية والتجارية، تفوح منها رائحة الحنين لعبق الماضي وجماله.
أسواق حلب قيمة تاريخية ومعنوية، أسواق حلب تستحل مكان القلب من الجسد، وسوق “المدينة القديمة ” كما يسميه الحلبيون أطول سوق مسقوف في العالم، يعود للعام 312 قبل الميلاد، يبلغ طوله 15 كم ومساحته 16 هكتاراً، عاش كما سجّل المؤرخون عصراً ذهبياً في القرن السابع عشر، 39 سوقاً و68 خاناً أشبه بالمتاحف الشعبية الحية، تفوح منها رائحة الزعتر والغار والعطور، وتمتاز بلمسات عمرانية فريدة يعانق بريقها غطاء السوق المكون من أسقف حجرية تتوضع على شكل عقد بديع التكوين.
– بعد السقطية سوق خان الحرير يتعافى عمرانياً
في ثاني مشروع لإعادة إحياء أسواق حلب القديمة ، وبعد ترميم سوق السقطية الحائز على جائزة “إيكروم الشارقة” للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث، أنهت مؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية إعادة ترميم سوق خان الحرير “سوق المجيدية” أحد أهم وأشهر أسواق حلب القديمة، ويحتوي على محلات ومنشآت لتجارة وبيع النسيج والحرير ومختلف أنواع الأقمشة، قبل أن تأتي عليه يد الإرهاب وتطمس معالمه التاريخية، وطابعه العمراني.
وعن السبب الرئيسي لاختيار ترميم سوق خان الحرير بعد السقطية أجابت لولوا خربطلي مهندسة موقع ضمن جهاز الإشراف بمؤسسة الآغا خان: إن سوق خان الحرير يعتبر صلة وصل بين المداخل الرئيسة للمدينة القديمة وسوق السقطية، ويمتد السوق على طول 140 م ويتضمن 60 محلاً تجارياً، وتم تجزئة العمل لقسمين شمالي ويضم 18 محلاً وجنوبي يضم 42 محلاً، تم الترميم بوتيرة عمل متسارعة لضمان عودة أصحاب المحلات في أسرع وقت ممكن، بدأ العمل في نهاية عام 2019 وانتهى في الشهر العاشر من عام 2020 الحالي، بالتعاون مابين المؤسسة ومجلس مدينة حلب “قطاع المدينة القديمة” ومديرية الآثار والمتاحف والأمانة السورية للتنمية.
لكن تحديات العمل كانت متفاوتة في القسمين، إذ كانت الأضرار الإنشائية كبيرة في الجزء الشمالي، وعمدنا إلى ترك خط الفصل بين العمار القديم والجديد بهدف الحفاظ على المصداقية، وتركنا بعض الأحجار من غير تعبئة لتبقى شاهداً على الحرب.
وفيما يتعلق بآلية الترميم قالت خربطلي إنه تم اعتماد المعايير المتبعة لضابطة المباني القديمة، وحاولنا قدر الإمكان الحفاظ على النسيج العمراني الأساسي للسوق، لأجل ذلك استخدمنا مواد ومعدات البناء التقليدية، حتى الأحجار تم معالجة أوجهها الحجرية بما يتناسب ويتقارب مع القديمة لإكسابها الروح ذاتها، كما تم فك الكحلة القديمة وإعادة التكحيل لضمان ربط الحجر بصورة صحيحة، وإزالة جميع التعديات والمخالفات القديمة “بناء إسمنتي، تلبيس حجر حديث على الواجهات الحجرية أو العتبات وغيرها”.
وتابعت خربطلي بالقول : واجهنا صعوبة كبيرة في سبيل الحصول على الشكل الأساسي للسوق ليس كما كان قبل الحرب بل لأساس البناء الأول،
لذلك اعتمدنا على الصور الأرشيفية لأشكال الأقواس والقناطر والزخارف الحجرية القديمة، وبالنسبة لواجهات المحلات عبارة عن هيكل معدني متين، وأبواب من أفضل أنواع الخشب، تم معالجتها بشكل مقاوم للعوامل الجوية المختلفة ، حتى في حال عدم وجود المظلات، أما الإنارة فهي من الطاقة الشمسية البديلة، وبذات الوقت تم مد أنابيب كهربائية تحت العتبات البازلتية لكل محل لضمان عدم تخريب العتبات في حال تم تغذية السوق بالطاقة الكهربائية، وتم الانتهاء من شبكة الهاتف والصرف الصحي أيضاً، ويجري العمل حالياً على تأهيل جامع الشريف عمر.
وسلمت الأمانة السورية للتنمية المفاتيح لأصحاب المحلات مؤخراً ونأمل عودتهم للعمل وإصلاح محلاتهم من الداخل لعودة الحياة إلى السوق من جديد.
أصحاب المحلات ومعوقات العودة في لقاء” للجماهير “مع بعض أصحاب المحلات لمعرفة معوقات افتتاح محلاتهم أشار عبد الغني آل طه صاحب محل في أول سوق خان الحرير إلى ضرورة وضع عتبات على مداخل المحلات لمنع تسرب المياه لداخلها، إضافة لاقتراحه بمنح التجار قروضاً من غير فائدة تسدد على مراحل.
بينما طالب زياد محمد علي بإعادة تبليط أرضية السوق بسوية واحدة مع رص شديد، ووضع تصميم موحد ومزهرية واحدة للمظلات.
قطاع المدينة القديمة ودوره في الترميم
لمعرفة دور قطاع المدينة القديمة في الترميم وماهي الخطوات المتبعة لتشجيع التجار على العودة من قبله، وإيجلد الحلول لمطالب التجار بتحسين وضع الأرضية والقروض، التقت الجماهير مدير المدينة القديمة المهندس أحمد شهابي الذي حدثنا بقوله :
تم تنفيذ أعمال إعادة تأهيل سوق خان الحرير بموجب اتفاقية بين المديرية العامة للآثار والمتاحف ومحافظة حلب ومجلس مدينة حلب والامانة السورية للتنمية ومؤسسة الآغا خان .
وتضمنت الأعمال إعادة بناء وترميم ما تهدم بفعل الإرهاب، وإزالة المخالفات والتشوهات، وبناء الأقواس الحجرية وتنظيف الواجهات، واستبدال الدرابيات المعدنية بأبواب خشبية وإنارة السوق بالطاقة البديلة.
تم الإشراف على الأعمال بلجنة فنية مشتركة من مديرية المدينة القديمة ومديرية الاثار والمتاحف بحلب، والعتبات تم استبدالها ضمن أعمال المشروع، ولم يشمل المشروع إعادة رصف البلاط الحجري، و”الانخفاسات” الحاصلة فيه نتيجة شبكة الاتصالات، وحاليا نقوم بإعداد إضبارة لقلع البلاط وإعادة تبليطه بعد تنفيذ البنى التحتية لخطوط الكهرباء.
مديرية المدينة القديمة تقوم بمنح الرخص المطلوبة لأصحاب المحلات التجارية بإجراءات مبسطة بالتشاركية مع مديرية الآثار والمتاحف بحلب. وفيما يخص القروض فيمكن للسادة أصحاب الفعاليات التجارية التواصل مع الأمانة السورية للتنمية لمنحهم القروض اللازمة.
بقي أن نقول : صحيح أن سنوات الحرب العجاف لم تمر مرور الكرام، وأتت بكل ما فيها من قسوة على الحجر والبشر، لكن وحدها إرادة البقاء كفيلة بعودة الحياة إلى أسواق حلب القديمة، لتستعيد ألق الماضي وتعود الحياة لتدب في عروقها كما شهدها أهلها وعهدوها.
رقم العدد 16232