الفنان المتمرد ” الحاج” للجماهير : الموهبة التي لا تتكئ على العلم تبقى ناقصة… والفن رسالة أحملها في داخلي … الموسيقا أداة من أدوات المقاومة وحام للحق الفلسطيني والعربي

الجماهير – هديل برو

بينما كنت أسير في الشارع “الوسطاني” في مخيم النيرب اصطادني حوار مابين عودين ، تتبعت الحوار إلى أن أوصلني إلى معهد حنين للموسيقا المتنكر بزي دكان بسيط موجود بين محلات الخضار والألبسة ، هذا الصالون الثقافي أو المعهد الصغير بمساحته ، الكبير بقلبه، يديره ملحن كبير اسمه الموسيقار موفق الحاج أحد أهم الموسيقيين الفلسطينيين، ومن أبرع القامات الفنية المخلصة لفنها ورسالتها والتي سعت “الجماهير ” إلى استكشاف أعماقها.

*الانتقال من العشوائية الى الأكاديمية ..
– يعرفنا بنفسه فيقول : أنا من فلسطين من حيفا ولدت في مخيم النيرب عام 1959 ..
وعن بداية مشواره وعشقه للموسيقا يتابع الحاج ويأخذنا إلى مراحل طفولته إذ يقول: امتلكت هذا الهاجس منذ أن كنت أدرس في الصف الرابع والخامس الابتدائي ، كنا نشتري الخيطان ونشدها على المسامير لنصدر بها الأصوات ، إلا أن الأمر فيما بعد أخذ منحى مختلفاً حين وصلت إلى المرحلة الإعدادية ، إذ اشتريت آلة الغيتار بسعر تسعين ليرة سورية ، أي ما يعادل راتب موظف آنذاك، ومع هذه الآلة كانت البداية، إذ بدأت أتدرب سماعيا باستخدام آلة التسجيل، واستطعت عزف بعض المقطوعات البسيطة، إلا أن هذا لم يكن كافيا لإشباع طموحي ، ما دفعني لبلورة نفسي أكثر في المرحلة الثانوية، فالتحقت بمعهد حلب الخاص، الذي كان في ذلك الوقت يجمع أهم أعلام الموسيقا ، ومنهم (محمد قصاص ، نديم الدرويش ،علي الدرويش ) ، وفي المعهد درست وأتقنت ( علم النوتة ، والمقامات أي العلم النظري للموسيقا)، الموهبة التي لا تتكئ على علم تبقى دائما ناقصة ، ونصف العلم أن تقول: لا أعلم وأن مهمة أي مبدع حقيقي أن يتمرد على ما هو أجمل وألا يكفيه سقف لطموحه أو إبداعه ، كنت أصغر ملحن في مخيم النيرب ، حين كنت في الصف الثاني الثانوي وكانت أولى أعمالي تلحين، ( يا ثورة الثوار ، حيوا دلال ) للأستاذ فخري قدورة (ماشيين وسلاحنا بإيدينا للأستاذ “مروح الكبرا” كما لحنت للشاعرين عصام ترشحاني ، ونظيم أبو حسان.

* وعن تأسيس فرقة (أجراس العودة ) وبداية مرحلة دمشق يبين الحاج ويقول : كنت مع أصدقائي نجتمع ونعزف على العود أو الغيتار ، ثم أدركنا أن علينا أن ننظم عملنا وأن ننتقل إلى الخطوة التالية، فقررنا تأسيس فرقة وطنية بين عامي / 1978 و 1979 / بناء على اقتراح من الشاعر يوسف طافش، وبمشاركة كل من ( عبدالله صندقلي ،مشهور طافش ، عيسى شلبي ،خالد جمال ، إسماعيل أبو فادي) وأطلقنا عليها اسم ( أجراس العودة ) ومن وقتها شاركت الفرقة بعدة فعاليات منها : احتفالية يوم الأرض في مدرسة يافا، وأسبوع الفلكلور الفلسطيني ، كما نافست الكبار لأنها فرقة أصيلة لم تقلد بل أرادت إثبات ذاتها وقد أثار اللون الذي تقدمه انتباه الكثيرين.
– ومن أجراس العودة انتقلت إلى فرقة جيفارا غزة التي قدمت عرضا في مخيم النيرب لأعضاء فرقة الأرض في عام 1982 ، عندما جاءت من دمشق إلى حلب لتقدم عروضها على مسرح نقابة الفنانين وكان معهم حكم، اسمه الموسيقار الكبير” علي باجس ” مدير الفرقة ، وسأل وعرف من وراء هذه الأعمال ، فاقترح علي الانضمام إلى فرقة الأرض ، كنت في ذلك الوقت طالب أدب عربي إلا أنه تمسك بي ،وهنا بدأت إعادة الحسابات ، وكوني أمتلك الطموح والإمكانات لأكون كأفضل الملحنين فلم أتردد وانضممت إلى الفرقة ، وبالفعل أثبت جدارتي فبعد أسبوعين أو ثلاثة أصبحت فرقة الأرض من أهم ثلاثة فرق ،إلى جانب أني أصبحت مدير الفرقة ومسؤول الدبكة ، من وقتها وأنا أعطي ألحاني – لكل الفرق الفلسطينية منها( غسان كنفاني ،القدس ، الأجنحة ) ما عدا فرقة العاشقين للأمانة – وكان من أشهر الألحان ( القمر أسود ) ثم سافرت مع الفرقة إلى الإمارات و ليبيا ، وبعدها اشتد العبء الاقتصادي على الفرقة الكبيرة إذ كانت تضم/ ٤٠ /عضوا – ففكرنا أن ينبثق عن هذه الفرقة فرق صغيرة من أهمها فرقة حنين ، وأسسها معي خريجا معهد الفورسدوار البلغاري عماد عقيدو وناصر عقيدو ، وقد أحرزت فرقة حنين نجاحاً كبيرا ،وتمكنت من السفر في جولات إلى كوريا وألمانيا الديمقراطية والإمارات ، ثم انقطعت بعدها فنيا بسبب التحاقي بخدمة للعلم ..

* مرحلة العودة إلى حلب وتأسيس معهد حنين
ويتابع الحاج عندما انتهيت من خدمة العلم ، وبسبب الظروف الاقتصادية تراجعت الفرق المركزية ولم يكن الوضع الفني كما عهدته في دمشق ، وشدني الحنين إلى مخيم النيرب الذي يعني لي الكثير ، ومن منطلق أن الإبداع لا يحده مكان أو زمان ، أردت مع رفاقي الفنانين أن أعمل شيئا يليق بهذا المخيم ، وهكذا افتتحت أول معهد موسيقي في المخيم أطلقت عليه اسم “معهد حنين” ليكون ملتقى للشعراء والأدباء ومنارة لتعليم الطلاب الموسيقا ..وهكذا تحول إلى مايشبه الصالون الأدبي، إذ يجمع أسماء مهمة في الأدب والموسيقا أمثال ( عصام ترشحاني ، مروح الكبرا ، يوسف طافش ، فخري قدورة ) وغيرهم ..
وبالرغم من ضيق المكان والغالبية العظمى يحتجون على افتتاح المعهد وينصحون بأن أحوله إلى محل للخضار، إلا أني لن أفعل لأني أحمل رسالة الفن في داخلي ، والمعهد حاليا يشهد حضورا كبيرا.

* ويكمل الحاج حول دوره بصفته معلما في “معهد حنين ” وميلاد فرقة ( لحن الوفاء ) قائلا : أجد متعة في تلحين النص الموسيقي ،لكن التعليم أمر مختلف إذ يتحتم عليك تعليم الطالب ابتداء من الصفر معلومات باتت لديك بديهية. مضيفا لقد قمنا بواجبنا تجاه أبنائنا ، و دربنا عدداً كبيراً من الشبان والشابات منهم من لمع نجمه هنا أو في دمشق ، كما أن الكثيرين لم يستمروا بسبب صعوبات جمة على رأسها الوضع الاقتصادي الذي لم يكن يسمح باقتناء آلة ؛ فالموسيقا علم نظري وعملي وعلى المتعلم أن يطبق ما تعلمه ،وعندما يتقدم طالب إلى المعهد كنت أجلس معه ، وأجري تجربة له و بخبرتي صرت أستطيع أن أقول أن هذا يمتلك أسباب النجاح أم لا ، ونادراً ما خاب إحساسي ، وبالتزامن مع عملي في معهد حنين ، عملت مديراً لمشروع فني هولندي في مدارس وكالة الغوث لتدريب الطلاب على المنهج العلمي للموسيقا في مخيمي النيرب وحندرات ، لكن مع بدء الحرب على سورية تمت محاصرتنا، ولم يكتمل للأسف حلمي بتشكيل كورال يضم زهاء ٤٠ عازفا و ٤٠ مغنيا، وعدت من جديد إلى نقطة الصفر… ولكني لم أستسلم، وبناء على اقتراح من الأصدقاء وافقت على تشكيل فرقة وطنية جديدة أطلقنا عليها اسم ( لحن الوفاء ) تقدم الفن الأصيل من أغان طربية تراثية ونوشحات ، إضافة للأغنيات الوطنية ، خاصة في ظل غياب الأغاني الملتزمة عن الساحة الثقافية ، وبعد اكتمال الأعضاء وتأمين مكان للتدريب ،باتت الفرقة تضم أصواتا مهمة وتقدم الألحان الملحمية ويخبرني الزملاء الفنانون أنهم وجدوا في فرقة لحن الوفاء شيئا جديدا، وجدوا فيه ضالتهم ..

* الموسيقا أداة من أدوات الم…قاومة الثقافية وحام للحق الفلسطيني والعربي .
– ويؤكد الحاج في ختام حديثه أن الموسيقا هي جزء من ثقافة وهوية وتاريخ كل شعب ، وتشكل عنصراً مهما في خضم الصراع مع العدو ، الذي اتخذ صورته الثقافية منذ البدايات من خلال سرقة التراث وحتى الأهازيج من الموروث الثقافي ، وهذا الشكل من الم..قاومة لا يقل أهمية عن الم..قاومة المسلحة في ظل هذه الصفاقة الصه..يونية المدعومة بالآلة الإعلامية الغربية التي تحاول الاستئثار بالرأي العام، ( حكايتي أمام حكايتك ) بل إن الموسيقا و الأغاني الم…قاومة حام للحق الفلسطيني والعربي ، ومن هنا كانت مهمة الفنان الملتزم أن يواجه العدو ويكشف تزوير الحقائق، إن تراثنا الممتد من ٥٠٠٠ عام يثبت حقنا ولكل من يسمع نحن هنا …
وبهذا انتهى اللقاء وعاد الملحن ومعلم لغة العالم الأستاذ موفق الحاج ليحتضن عوده ويؤدي رسالته الفنية الوطنية التي نذر نفسه من أجلها ، وربما ستصطادك مثلي نغمات حنين انبلجت لتوها من عود دافئ أو تفتحت مع أنفاس ناي سحري تنبعث من هذا المعهد الكبير المتنكر بزي دكان صغير..
رقم العدد ١٦٣١٤

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار