الجماهير / يمنى حمامي
عندما تتجه من (باب الحديد) وصولا إلى ما قبل (قبو النجارين ) ، ستضطر أن تستحضر قواك لكي تصعد معي إلى ( طلعة الكلتاوية ) ، فهي قائمة على علو هضبي ، يجعلها شامخة كالشامة على خد حلب ، وقبل أن تستكمل صعودك إلى الجامع ، عليك أن تتجه يمينا ، هناك حيث الساحة التي شهدت طفولتي ، وأجمل أيام حياتي ، وما أن تحط قدماك على أرضها ، على تلك الحجارة المتراصة ، والتي كنت احفظ ترتيبها رغم صغر سني ، حتى تترائ لك صورتي ، ستبصرني في خيالات ذلك المكان ، وستسمع ضحكاتي ترن مابين الجدران ،
هناك موطن الفرح ، وأيقونة الشجن ، صحيح أنني لم اعش طويلا في الكلتاوية ، حيث بيتنا العربي الصغير مساحة والكبير حبا ودفئا و ألفة ، إلا انني لا أنساه ، ولا تغب عن بالي تفاصيله ، بدءا من مساحة الاصوات التي لا زلت اسمعها ، وحتى حجم العشق للماضي الذي لا زال يكبر في روحي ، فمنذ حلول وقت الفجر ، و ابتداء المآذن برفع تسميعات ما قبل الأذان ، تكون عقارب ساعتي الروحية قد استيقظت ، معلنة لحظة الخوف والوجل !!!نعم ، لقد كانت تتسلل الى مسمعي تلك الكلمات ( مولاي يا الله ، مولاي يا الله ) ، كترانيم قيامة !! رغم أن شعورا في نفسي كان يطمئنني ، وأظنه آنذاك كان مرتبطا بذكر الله ، في كل دول العالم هناك أذان ، لكن في حلب كان للتسميعات نغم آخر ، فيه سكون عجيب ، ينسكب على روح حلب
و يمنحها الطمأنينة مع كل شروق شمس يوم جديد ، تستطيع في هذا التوقيت أن تجزم أن اهل حلب مستيقظين ، يتوضؤون ، ويتهيؤون للذهاب لصلاة الفجر ، لحظة وحدت فتح صنابير الماء ، الذي يتدفق على أجسادهم ، ويمسحون به رؤوسهم وهم يتمتمون بالاستغفار والصلاة على النبي ، أستطيع ان استحضر بكل حواسي ذلك المشهد بكل روحه و بكل ترانيمه ، لا اعلم آنذاك ما لذي كان يبقيني متيقظة ارصد كل التفاصيل ، ما كنت اعرف أنني سأخطها يوما على سطور ، سطور تحكي اياما عشناها بشغف وحب ، و قد انصرمت تاركة وراءها ذاكرة تأبى ان تمحي اي اثر لمن عاشرناهم وعشنا معهم ، و بالطبع لن انسى هديل الحمام على نوافذ بيتنا ، المطلة على سطح
( قبو النجارين ) ،والتي كانت لا تتعدى على دور الاذان او التسميع ، وكأنما كنا نعيش بمنظومة محكومة التراتيب ، لا مجال فيها للعبث والتعدي ،
ها قد انتهت صلاة الفجر ، و اقترب شروق الشمس ليعلن بداية تفصيلة جديدة سأتحدث عنها في مقالتي اللاحقة .
رقم العدد 16339