الجماهير – عتاب ضويحي
كتاب أشبه بحقل من الألغام المفخخة، كُتب في دهماء الحرب “على، في” سورية ، كتاب قابض موحش سيشعر القارئ معه بالانزعاج والضيق والقلق والانقباض، لكن هذه الصفحات هي مرآة بيضاء لتاريخ أسود قد مرت به حلب في حقبة مجنونة جعلتني أفكر بأن أكتب هلوساتي هذه على مر ثماني سنين خلالها مرّت بليالي حلب وأيامها حوادث شتى، ولكنها متشابهة في الرعب والقلق والألم.
من هذه المقدمة اختارت الكاتبة مريانا سواس الانطلاق لتوثق ما مر بمدينتها حلب من أحداث مأساوية فيها من الألم والوجع أقساه وأقصاه، من خلال هلوسات واقعية لم يكن الخيال ملهمها، بل الواقع وأدق تفاصيله، أبطالها ليسوا وهميين، هم شخصيات حقيقية عانت وكابدت ويلات الحرب، فتارة تهلوس الكاتبة بشخصياتها، وتارة تهلوس بشخصها، تبدأ هلوساتها بعمياء وتنتهي بالصحوة وانتهاء بالهلوسة،لأننا محكومون بالأمل، لكن الأمل عند الكاتبة كان جريحاً نازفاً، ولد من رحم المعاناة وخرج من بين الغرابيب السود وخفافيش الظلام.
في هلوسات الكاتبة لم يكن الموت يتيماً وحيدا”، بل كان أخطبوطاً بأيادٍ نارية، يداعب دمى الطفولة، وشيب الكهولة، وزهرة الشباب.
لم تسمح الكاتبة لأي حدث أن يمر عليها مرور الكرام، بل كانت عين الرقيب عليه،من أحداث حلب اليومية الدموية إلى اليوم المنتظر والانتصار، من الطفلة ليلى ابنة الجيران التي تحول صوتها فجأة لصوت قذيفة، إلى أم عبدو المرأة البسيطة المكافحة التي خسرت زوجها واثنين من أولادها والثالث بساق مبتورة، والطفل الشهيد أحمد بائع “العلكة”.
هلوسات أخذت بالكاتبة إلى أماكن بعيدة وجعلت منها امرأة مختلفة الأدوار من طبيبة تداوي جراح البناء وتجبر ساقه وتمسح عن حجارته الدم، إلى لبوة تريد أن تزأر بغضبها معلنة رفضها وهيجانها مما يحدث على تراب بلدها.
أماكن حلب وحاراتها كان لها نصيب في البطولة أيضا “ساحة الحطب، الجامع الكبير، الكنائس، حديقة السبيل” أعياد الفطر والأضحى والفصح، ورمضان وليلة النصف من شعبان،السنة الميلادية والهجرية، المباريات ونهائيات كأس العالم، الصباح والمساء، الستارة، النعامة، القط الأسود، خوف وجشع، غياب وعودة “.
عناوين لهلوسات سطرت الكاتبة في كل حرف من حروفها قصة بلغة قريبة من المتلقي البسيط والنخبوي، اقتربت من شغاف القلب، لتجعل القارئ يظن أنها تكتب عنه، وتجعله بطل هلوساتها.
لقد صاغت الواقع بأسلوب أدبي سلس محبب وقريب،بالنسبة للقارئ يسترجع بقراءته شريط ذكرياته، أما بالنسبة للكاتبة فأوراقه مرآة لها ذاكرة تعود إليها غير مرة لترى وجهها كما ذكرت في نهايته.
كتاب فيه من الألم والوجع بقدر ما فيه من الأمل ولكن بطريقة اختارتها الكاتبة سواس لتتميز بما وثّقت وعايشت وكتبت بإحساس امرأة عاشقة حتى الهيام لكل ذرة تراب من مدينتها حلب، ووثقت بمسؤولية المؤرخ والمحب الغيور على وطنه.
هلوسات امرأة من حلب صدر عن دار الفرقان للغات والآداب ويقع في 286صفحة من القطع المتوسط. لوحة الغلاف للفنانة التشكيلية لوسي مقصود بعنوان “صمت”.
صدر للكاتبة سواس مجموعة نثرية بعنوان “محطات ضائعة” والثانية بعنوان “عبثية هاجس” ورواية بعنوان “زمن يغتال موجة” ولها قيد الطبع” لوحة من وهم” و”امرأة متورطة” .
رقم العدد ١٦٣٥٧