ذكرياتُ سورية الأبيّة!.

الجماهير- بيانكا ماضيّة

كلُّ الذكرياتِ التي مرَّتْ على روحي وذاكِرَتي عشر سنواتٍ أسترْجعُها، كنتَ فارساً آتيَاً من لوحةِ التاريخ، من عبقِه، من حربٍ مجنونةٍ حملتْك إليَّ عاشقاً لم يهدّه الغياب؛ لتهديَني دمَكَ الموشَّى بالحنين. كنتَ مدجّجاً بأشواقِكَ، بانتمائِكَ إليّ، مُزنّراً بالنُّجومِ، تحملُ النجوى على كتفِكَ، وفي عروقِك يسْري دمي.
كنتُ أنتظرُ مجيئك فارساً محرِّراً أشواقي المختبئةَ في عروشِ الذكرى، لأتحرَّرَ من قيدٍ صنعَه الأغرابُ لي، لأتحرَّرَ من أوهامِهم لحظاتِ نصرٍ، فوقفتَ أمامَ مُدني فارساً لم يعرف التاريخُ شُموخاً كشموخِه، ودخلتَها عاشقاً؛ لتكتبَ تاريخي.
هناك وقفتَ لترسمَ، بدمِك، بروحِك، بصمودِك، بدفاعِك عن قلاعي، خطوطاً لحُلمٍ لطالما انتظرتُه سنواتٍ بعد أن سالَ دمُ أبنائي على طُرقاتي، خطوطاً مازالت خريطتُها لوحةً فسيفسائيّةً احتفظتُ بها في حناياي.
هناك وقفتَ ووقفَ التاريخُ معكَ فارِشاً جناحيه، وهناك كنتُ أجهّزُ للوحاتِك ألفَ لونٍ ولون، هناك في أعالي جبالي شرّعت ألواني للسماءِ لواءً مرفرفاً، فركزتُ بهاءَك وشموخَكَ في وجداني يستنهضُ تاريخي صباحَ مساء!.
لم أكن أبحثُ عنكَ، فأنتَ فارسُ مدني، ألمحُ اسمَك مدوّناً هنا وهناك، يلتصقُ باسمي هنا وهناك، وكم جمعتنا أوراقٌ وسطورٌ وحكايات.
ونسينا الحكاياتِ، ومحونا الحكاياتِ، وتحوَّلنا حكايةَ حبٍّ واحدةٍ. لها بدايتُها، لها نهايتُها، ولكنها ليست كالنهايات.
في اللحظاتِ الأخيرةِ من زمنٍ كاد يقضي على آخرِ مدني، وصلتْ آهاتي أقصى حدودِ السماء، وكانت تزدادُ في كلِّ لحظةٍ يسقط فيها طفلٌ من أطفالي على أرضي، أو جنديٌّ من جنودي، أو حفنةُ ترابٍ مني!.
كم فكَّرتُ بك وأنت ترتدي لباسَك المزركشَ بألواني، لم أعُد أعرفُ أيُّنا أنا! أنا التي باتت ممزّقَةَ الأوصالِ، مشتتةَ الجهاتِ، أم أنتَ الذي لا تنام ولا تصحو إلا مدافعاً بروحِكَ عنّي، عن تاريخي وحضارتي وإرثِ أبنائي، رانياً إلى ذاك الأفقِ البعيدِ الذي التحمتْ فيه السماءُ بالأرض، وغرقتْ باتجاهِه الأرواح؟! أنا التي مازلت أقاومُ حتى النفسِ الأخيرِ من الرصاصة؟! أم أنتَ الذي يستنهضُك دمٌ، أو أمٌّ ارتمتْ فوق قبرِ شهيدِها المغطى بالريحان؟! أيُّنا أنا؟! أأنا التي هجرتْها طيورُ السنونو باحثةً عن عشٍّ دافئٍ لا تخترقه قذائفُ الموت؟! أم أنتَ الذي احتميت بدِفئي من كلِّ صقيع الليالي والأغراب؟!
كم غرقتُ في الصمتِ وأنا أفكر بالضجيجِ الذي يحيط بي، وأتطلَّعُ إلى ماحولي، فأراكَ تشعُّ من كلِّ جوانبي، أروحٌ أرضيةٌ أنتَ أم قبسٌ سماوي؟! أراك تظهرُ من بين طرقاتي، حاملاً فؤادَك وماشياً باتجاهِ الألق، أو محلّقاً هناك في البعيد، فارشاً جناحيك على كَوْني كصقرٍ لم يتعبه الموتُ المعربدُ على أديمي.
وتأتيني حاملاً روائحَ العشبِ النديّةِ، أراك ممدّداً على بساطي، لباسُك لوني، بل رائحةُ السماء، تزدادُ روحي تماسكاً بكَ، فأخترقُ الظلمةَ البدائيةَّ الكامنةَ في جانبٍ ما من روحي، وأنطلقُ إليك محوِّلة هذه الظلمةِ إلى لهبٍ، إلى نار!.
أيُّ وحدةٍ سريّةٍ تجمعُني بك؟! أهي العناصرُ التي تشكلنا: الماءُ والنارُ والهواءُ والروح؟! أخال أن هناك عنصراً ما لم يكتشفه العلماءُ بعد، هو ذاك الذي انحدرنا منه أنا وأنتَ!..
طيلةَ تاريخي كانت هناك كلمةٌ تظلُّ تعيدُ ألحانَها في مسمعي، تعذّبني، تفرحني وتبكيني، تجددني كطفلٍ خرجَ لتوِّه من ماءِ المعمودية، إنَّها كلمةُ السلامِ، كم بكيتُ وأنا أسمعُها، وكم بكيت أعواماً مضتْ وأنا أرنو إلى تحقيقِ حروفِها فيَّ، ولما ينتشر السلامُ بعدُ على مساحاتي كلِّها، لكنّي وجدتُه كاملاً دون نقصانٍ بين جوانحِك، في حنانِك، في ترنيمةِ قلبك إلي، وهو يضمُّني في كلِّ أوان.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار