بقلم عبد الخالق قلعه جي
رغم أعمال الصيانة التي كانت تجري على رصيف مدخله.. كان كل شيء يشدني إليه.. سحر المكان هو، أم الشوق، أم ظمأ الروح.. لعل جمعيها كانت أحرف الدعوة الآسرة، التي وصلتني عبر النافذة المشرعة والضوء الأبيض المنبعث منها.
عبرت الشارع إليه.. لحظات وقفت أمام صرحه الأثير، أسلم على تلك الأرواح التي يعبق بها المكان وأستأذنها الدخول.. أصوات صبايا وشباب بكل الأمل تستقبل المشتاق وتستعجلني.. إن في جنبي قلباً متعباً.. ما ذكرت الصِبا إلا صَبا..
أي جمال هذا الذي كان وأي جلال.. عشرات السنين وما اختزنته ذاكرة المكان رافقتني مع رقيق أشعار وعذب ألحان.. تصَّاعد نغماتها فتتلون وتتنقل منسابة بأناقة وتسام وإبداع..
كمن وجد ضالته وسقياه وجدت نفسي بينهم.. باقة من الأصوات الجميلة.. مع أغصانه.. مطلع الموشح.. كانوا حوله.. مشدودة إليه عيونهم وهم يرنمون.. ظامئ حاولت أن أهدي له.. من معين الصبر راحاً فأبى.
حالة من سلطنة وإبداع نادراً ما تتجلى.. كان في وسطهم بكل أحاسيسه يغني فيرددون معه ومن بعده.. يعيد ويعيدون حتى يطمئن إلى سلامة الأداء ورقي سويته، وهو في ذلك ترى العبرة بصوته تفيض كلما مر بالذكرى وهفا شوقاً إلى أيامه..
كذا شأن المحبين لا يكلون ولا يملون.. وكذا شأنه كان.. صفوان العابد وهو يتابع رسالته في تعليم أصول الغناء والموسيقا والموشحات والقدود ونقلها إلى اليافعين والشباب، وبكل الحافز والمحبة التي تذكي شموع استمرار وتألق هذا النادي.. نادي شباب العروبة للآداب والفنون.
تاريخ عريق لهذ النادي يعود إلى عام ألف وتسعمئة وسبعة وخمسين حيث تأسس، وغدا واحداً من أهم مدارس حلب الفنية، وذلك لما اجتمع له من أعلام أخذوا على عاتقهم أمانة الحفاظ على الهوية الثقافية والفنية للتراث الغنائي وتعليمه للأجيال الناشئة.
أسماء كبيرة يسجلها النادي في صفحات تاريخه العريق، هي أكثر من أن تعد أو تحصى.. وقد أوردها الفنان هلال دملخي في واحد من فصول كتابه مسرح حلب في مئة عام ( 1900- 2000 ) وذلك في إطار الحديث عن نادي شباب العروبة للآداب والفنون.
في هذا الفصل يلخص الكتاب تاريخ النادي منذ تأسيسه، ويستعرض بعض ما قدم من أنشطة وفعاليات، ويذكر أهم الأسماء التي أسست له وانطلقت به موسيقياً وغنائياً ومسرحياً.. ليكون مفردة هامة في الحياة الفنية والثقافية بحلب.
على مدى عشرات السنين قدم النادي الكثير من الأسماء اللامعة التي أصبحت نجوماً في سماء الأغنية العربية على المستوى المحلي والعربي، ومازالت في البال والذاكرة بعض أهم الحفلات التي قدمها النادي، على مسرح دار الكتب الوطنية ومسرح نقابة الفنانين ومسرح دار التربية.
أجيال تتلوها أجيال.. والمحبة كما الرسالة مستمرة، استمرار هذا النادي وحضوره وفتح الأبواب أمام اليافعين والشباب ليحفظوا إرث الآباء والأجداد ويحافظوا عليه ويجعلوا منه زاداً ومعيناً لآفاق أخرى جديدة يجب أن تكون.. كما عمل عليها وصيّرها أولئك الرواد الأوائل.
ربما عناوين أخرى تتصل بالهم اليومي المعيشي منه بشكل خاص، هي ما يجب أن تستحوذ على هذي السطور، لكنها فسحة للنفس وما يعتريها.. لست في بحبوحة من أمري ولا رغد عيش والحياة، فالجسد بكبرياء يئن والروح بصمت تتمزق.. كأنها زهرة خرساء لم ترزق براعة منشد.. ولكن لي في السماء والمحبين ورد الأماني وقطْرُ الأمان.. حبٌ هي.. بعض حب لهذه الأرض ومن عليها ، وكاف ونون لابد ستكون.
لعلي مترف الأحلام.. مازالت أصداؤه في جنبي تتردد وفي مسمعي… بطعم الراست ونكهات الحجاز وغيرها كان فنجان القهوة، ذاك، وتلك البروفة.. ورب بروفة فاقت حفلة وحفلات.. ابداعاً وجمالا.