مجلس الشعب: من ديكور سياسي إلى رافعة للتشريع والرقابة

بقلم الدكتور عامر النمر …
متخصص بشؤون الشرق الأوسط السياسية
ممثل موضع استشاري في الأمم المتحدة

السلطة التشريعية هي العمود الفقري لأي نظام سياسي سليم، فهي التي تمنح الشرعية للقوانين وتراقب أداء الحكومة وتؤمن التوازن بين السلطات. ومن دون برلمان فاعل، تتحول الدولة إلى سلطة تنفيذية مطلقة لا رقيب عليها. في سوريا، ولسنوات طويلة، جرى تهميش هذا الدور حتى أصبح مجلس الشعب مؤسسة شكلية، لا يملك من أدواته سوى المصادقة على ما يملى عليه. وتشير التقديرات إلى أن فاعلية المجلس لم تتجاوز في عهد الأسد 4% مقارنة بالمعايير البرلمانية الدولية، إذ كانت أغلب القوانين تمر كما تصل من السلطة التنفيذية، من دون أي تعديل أو نقاش حقيقي، بينما كان الوقت المخصص للمداولات محدوداً والرقابة على الوزارت شبه معدومة.

وإذا قارنا هذا الواقع بما يجري في برلمانات العالم، ندرك حجم الهوة التي عشناها. ففي بريطانيا يعقد مجلس العموم بين 150 و160 جلسة سنوياً، ويخصص في المتوسط أكثر من ثلاثين ساعة لمناقشة أي مشروع قانون رئيسي قبل التصويت عليه، بما يتيح تعديلات واسعة ويجعل النقاش مفتوحاً على كل الاحتمالات. وفي تركيا، ورغم حدة الاستقطاب السياسي، فإن البرلمان يدرس ما يقارب 500 قانون سنوياً، وأكثر من أربعين في المئة منها تخضع لتعديلات جوهرية عبر اللجان المتخصصة قبل اعتمادها، وهو ما يضمن مشاركة فعلية للأحزاب والخبراء. أما في كندا، فحوالي سبعين في المئة من مشاريع القوانين تمر أولاً عبر لجان استماع عامة، حيث يستدعى الأكاديميون والهيئات المدنية والجهات المعنية لتقديم آرائهم، فيتحول التشريع إلى عملية جماعية، لا إلى نصوص تفرض من الأعلى.

هذا التباين يوضح الفجوة العميقة بين ما كان عليه مجلس الشعب السوري سابقاً وبين ما يجب أن يكون عليه في المستقبل. فالمجلس الذي يحتاجه السوريون اليوم لا يمكن أن يكتفي بالمصادقة، بل يجب أن يقوم بدور جوهري في تشخيص الحاجة لكل قانون، وتمحيص نصوصه دستورياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، ثم مراقبة تنفيذه بعد إقراره. فالقانون ليس نصاً يضاف إلى الأرشيف، بل أداة لتغيير حياة الناس.

غير أن التشريعات الجيدة لا تأتي من فراغ، بل تحتاج إلى نواب يمتلكون المعرفة والقدرة والفضول. فعضو مجلس الشعب لا يجوز أبداً أن يكون عدواً لما يجهل، بل إنساناً يسعى للتعلم والانفتاح على ما لا يعرف ليتمكن من صناعة الرؤى والأفكار الاستراتيجية. والمطلوب أن يجلس تحت القبة القانوني إلى جانب الاقتصادي، والطبيب بجانب المربي، والخبير الاجتماعي بجوار الإداري فضلاً عن الخبراء في قطاعات البيئة والأمن، أي التمثيل الأفقي لكل التخصصات ليشكلوا معاً عقلاً جماعياً قادراً على صناعة قوانين وتشريعات واقعية وعادلة.

إن تغيير الصورة النمطية عن المجلس هو اليوم مهمة وطنية. لم يعد مقبولاً أن يكون مقعد البرلمان وسيلة وجاهة أو عنواناً لمصالح ضيقة. المطلوب مجلس يليق بتضحيات السوريين، مجلس يراقب بجرأة، ويشرّع بمسؤولية، ويحاسب بشفافية، ويرفع صوت الشعب فوق كل صوت. فكلما بقي المجلس مجرد واجهة شكلية، بقي الوطن أسيراً للضعف والتهميش وكلما كان المجلس قوياً ومستقلاً، كانت الدولة أكثر عدلاً وصلابة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار