بقلم عبــــد الخـــالق قلعـــه جي
في الحديقة الخلفية للبيت.. ليس وراء البحار.. هناك، حيث الغـ. ـطرسة والاستـ. ـعلاء ونزعات السيـ. ـطرة والهيمـ. ـنة والاستـ. ـعباد.. إنما في جمعية سكنية حيث أقيم.. بضع شجيرات و ورود ودالية عنب زرعتها منذ حوالي ستة عشر عاما قبيل أن ننتقل ساكنين فيه.
غالباً ما يعاني أهل الحدائق -الطوابق الأرضية- مما يصلهم هدية من بعض جيرانهم أصحاب الطوابق العليا.. إن كانت ما انطفأ من سكائر أو أكياسا فارغة.. أقلاماً.. كسرات خبز أو بعض قطع غسيل، ولا يخلو الأمر أحياناً من كاسات وصحوناً.. كانت.. قبل ان تصل أرض الحديقة وتتشظى إبراً من بلور.
للأمانة وبظهر الغيب، أني أوتيت جيراناً طيبين عموماً أنقياء، يبددون هذا الهاجس ويخففون إلى حدها الأدنى المعاناة ويشاركوننا الإستماع والاستمتاع بفيروزيات العصافير التي تزور الحديقة كل صباح، وهديل الحمام.. سبحانك أيها العظيم.. وكأني بموسيقاهم فرادى وأسراباً كما التقاسيم تبدأ منفردة تمهد لموسيقا الآلات الأخرى فغناء الجوقة وتآلفاتها الجميلة.
يطير الحمام .. يحط الحمام .. ومن الذاكرة تعبق في الأجواء أغاني أسمهان و وديع الصافي وفيروز وصباح فخري ورياض السنباطي.. يا طيور.. رح حلفك بالغصن يا عصفور.. يا طير يا مسافر على طراف الدني.. يا طيرة طيري وذات يوم كان عصفور يناجي في الهوى أجمل زهرة.. أي أبجدية تلك التي تحكي قصص الهوى وأي لغة.
من النافذة المطلة على الحديقة أقف مع كل صباح.. أرقب هذا المشهد الذي ينتقل بي إلى “الخيميائي” الرواية.. ثمة لغة تتخطى الكلمات.. ومن يفك رموزها يتوصل إلى أن للعالم روحاً وأن الناس هم الذين يكتشفون صلة بما يعيشون.. ويكتشفون بملاحظتهم الأشياء طريقة للنفاذ إلى روح العالم.
يوماً بعد آخر كانت الأبجدية تتشكل لتصير أحرفاً وكلمات ورسائل، قرأت فيها ما كانت تريد الطيور والعصافير أن ترويه، وطقس جميل غدوت أعيش تفاصيله مشاعر مختلفة وغبطةً تملأ النفس رضا وحمداً وثناء.. وألِفُ باءٍ وحُبٍ، بي يسري إلى تلك الرسائل.
ضيافتي اليومية أقدمها.. رغيف خبز من مخصصاتي ” المدعومة ” أنثره بعد أن أقوم بفتفتته قطعاً صغيرة يسهل على الحمام التقاطها، وكذا على جوقة العصافير الرشيقة.
دونما حذر يحط الحمام، فيما العصافير على الأغصان تستطلع المكان يمنة ويسرة قبل أن تقرر الهبوط.. وما من يوم اكملت الدائرة حول خبزها، إذ أن كل عصفور وهو يحط ما زاحم أحداً من زملائه يوماً، وما منع آخر ولا تلمس أن لدى أحد منهم نية مبيتة سيئة أو تدبيراً جشعاً، للاستئثار بالوجبة منفرداً.. إنما بكل القناعة والنبالة يلتقط قطعة خبزه ويبتعد بها بضع قفزات ليفسح المكان لغيره وهكذا إلى أن يتناول الجميع ما قسم لهم ويجتمعون مجدداً على الأغصان يقدمون الشكر والامتنان.
لوحة الطيور هذه أعادتني في سلوكها الرفيع إلى ” بسطة الكوسا ” واليد التي تركت كل البسطة الطويلة العريضة، وامتدت بغير لباقة لتزاحمني وتسحب بعضها من تحت يدي حيث أقف و” أنَقِّي “.. معقول يا رجل “أي لهون وصلت”
اللوحة الكائناتية هذه، أعادتني أيضاً إلى ذاك الذي في باص أو سرفيس يزاحم.. يدوس على قدمك وبكل البلادة.. لا عفوا ولا اسف بل ربما يتوجب عليك أن تسأله وتعتذر له إن كانت قدمك قد أزعجته حينما داس عليها.
مواقف كثيرة ليس آخرها، الرجل الذي كان يراقبني وأنا أعبئ التمر من عبوة فتحت للتو.. فكان أن نصحني أن أدع حبات التمر التي على “الوجه” والتي غالباً ما تكون كبيرة.. لأن المواد الحافظة تتركز فيها.. وللناس فيما يعشقون نصائح.
ما فعلتها العصافير ولم أر أياً منهم ينظر إلى ما في منقار الآخر يطير به أو الى ما به عل الأرض يقتات فيما عيون ناس تراها تحدق فيك.. فيما تحمله من كيس اسود او أكياس تكاد من “البحلقة” تثقبها.
نماذج وصور من حياتنا عند بعض.. لا نريد لها أن تكون، فالأصل فينا الذوق واللباقة واللطف والمحبة والغيرية والأثرة، ولعلها مازالت في الذاكرة حاضرة تُروى كيف أن أحد تجار “المْدِيْنِة” في أسواق حلب القديمة اعتذر عن بيع زبون جاء ليشتري من عنده، وأشار له أن يشتري من جاره الذي لم يستفتح بعد.