الأناة: رِفعةٌ في التصرفات ونجاةٌ في الأزمات

بقلم الدكتور ربيع حسن كوكة

 

“في العجلة الندامة وفي التأني السلامة” حكمةٌ تختصر كثيراً من الموروث الشعبي والثقافي في أمتنا والذي عبّر عنه شعراء كُثر كالنابغة الشيباني حينما قال:

 

اليَــأسُ مِن طولِ الثَواءِ رَواحُ

وَالـمُكــثُ فيهِ تَثَبُّتٌ وَنَجـــاحُ

وَالجَهلُ ما لَم تَخشَ يَوماً ذِلَّةً

غَيٌّ وَعـاقِبَةُ الحُـلومِ صَـــلاحُ

وَالمَرءُ يُدِرِكُ في الأَناةِ بِحِلمِهِ

وَيُضــــامُ وَهُوَ مُدَرَّبٌ مِلحاحُ

 

والأناةُ تعني الحلمُ والرويّةُ والتثبّتُ والتفكّرُ في مآلات الأمور وعواقبها، وهي ما نُعبرُ عنها بعاميتنا الـمُحَبَّبَة بـ”طولة البال”.

 

تتفاوتُ درجات الناس في استجابتهم للمُثيرات من حولهم، فمنهم من يُستثار لأتفه الأسباب فيطيشُ ويخطئُ على عجل، ومنهم من تستثيره الشدائدُ فيتعامل معها بعقلٍ وحكمةٍ وأناةٍ، فيخرج من شدتها مأجوراً مشكوراً، ومع هذا التفاوت فهناك علاقة وثيقة بين ثقة الفرد في نفسه وبين أناته مع الآخرين، وتجاوزه عن خطئهم، فكلما سما دينه وخلقه اتسع صدره، ووسع غيره بعلمه وحلمه، وعَذر من أخطأ، وتسامح مع من سفه عليه.

 

وقد كانت الأناة صفة لازمة للأنبياء، مارسوها وحضوا عليها من اتبعهم من الناس ، فنبهوا على أهميتها في حياة البشرية، لذا كان رد الأنبياء على أقوامهم المكذبين والمتهمين لهم رداً معلماً للإنسانية جمعاء، فنقرأ في القرآن الكريم كيف أن نبي الله “هود” عليه السلام يقول لمن قالوا: {إنا لنراك في سفاهةٍ وإنا لنظنك من الكاذبين. قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكنى رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين}[الأعراف:66-68] لم يأخذهم بقولهم ويعدهم بالعذاب الأليم وإنما قدَّر ما بهم من جهالة فحاورهم وتأنى عليهم.

 

وما موقف رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي قال له: اعدل فإنك لم تعدل. حين رد الرسول الكريم بحكمةٍ ورِفقٍ: (ويحك فمن يعدل إذا أنا لم أعدل) إلا شاهد على أناته.

 

والأناة صفة ممدوحة إلا أن تكون تأخراً عن واجب شرعي؛ فقد امتداحها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) رواه مسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الأناة في كل شيء خير) رواه في الآحاد والمثاني.

 

ومن المذموم في الأناة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ثَلَاثٌ لَا تُؤَخَّرُ : الصَّلَاةُ إذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ لَهَا كُفْئًا ) رواه الترمذي.

 

وقد ترجم الصحابة الكرام هذا الخُلق في سائر مراحل حياتهم وعبروا عنه في أدبياتهم من ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان إلى عمرو بن العاص في الأناة: “أما بعد! فإن التفهم في الخير زيادة ورشد، وإن الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الخائب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيباً، وإن المعجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئاً، وإنه من لا ينفعه الرفق يضرّه الخَرَق، ومن لا تنفعه التجارب لا يدرك المعالي، ولن يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وشهوته”.

 

إن الإناة رِفعةٌ في التصرفات ونجاةٌ في الأزمات؛ تجعل من المتأني رفيع المستوى وتُنجه في المواقف الـمُهلِكة؛  وما أحوجنا إلى هذا الخلق العظم في تعاملاتنا على مستوى الفرد والمجتمع في كلِّ مناحي الحياة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار