د . سعد بساطة
لطالما كان الغذاء وسيلة لإبقاء البشر أحياء؛ ولكن مع الزمن تحول من حاجة إلى مبعث للسعادة والبهجة؛ ووسيلة للتأثير في الآخر، وأداة للتواصل، وأحد القوى الناعمة التي تمارسها الدول لإظهار ذوقها وتنوع المهارات فيها ونشر ثقافتها.
فعندما نسمع بالشوكولاته اللذيذة أول ما يخطر ببالنا سويسرا، وقد حمت فرنسا إسم مشروبها الوطني من العنب ( شمبانيا)؛ وحظر استخدام الاسم لغيرها؛ فأضحى إسم منتوج الدول الإخرى(النبيذ الفوار).
ونشرت إيطاليا معاناتها على طول العالم وعرضه؛ فأصبح طبق البيتزا من الأمور الأساسية لغداء سريع في أنحاء المعمورة.
واقتحمت سوريا مصر ودول الخليج؛ بسيخ الشاورما الشهية التي يسيل اللعاب لمرآها.
كانت الأمهات قديماً تعلم بناتها من المتزوجات حديثاً فن الطهي؛ وتنصحهن أن أسهل وأقصر طريق لقلب الرجل : هي عبر معدته!
ويبدو أن هذه المهارة مستخدمة بين القبائل: فأي نزاع يتم حله في وليمة معتبرة تنحر فيها الذبائح…
وحديثاً دأبت الدول على استخدام الموضوع في الدبلوماسية ضمن خضم مفاوضات متعثرة أو حوارات صعبة؛ لتخرجها من الطريق المسدود.
انتشار مفهوم المطاعم العالمية الفاخرة (Fine Dining)، حيث بدأت النظرة للطبخ تتحول من أنه مجرد مهمة إعداد طعام يقوم بها النساء والخدم في الغالب إلى أنه مسألة فن وشغف..
أما بالنسبة لعلاقتنا بالطعام بشكل عام، فأجد أنها غير مختلفة في بعدها عن الطرح الفكري والفلسفي. الكثير من الأحاديث الاجتماعية في العصر الحديث والتي تجسد علاقتنا بالطعام تنطلق من مفاهيم تنظر إلى الطعام كوسيلة لاكتساب الرشاقة والظهور بمظهر جميل، أو تنظر للطعام على أنه مجرد وقود أو وسيلة لنصبح أكثر انتاجية، أو أكثر صحة، أو مفاهيم تنظر على أنه مجلبة للذات الحسية اللحظية، وكل هذه المنطلقات مفهومة وطبيعية ومشروعة، لكنها تكاد تقول أن تعاملنا مع الطعام ما هو إلا تعامل براجماتي بحت؛ نريد أن نحصل على غاية معينة منه، وهذا ما يحدد علاقتنا به.
هنالك قول يتناقله الأوروبيون ” لايمكن القيام بعلاقات دبلوماسية ناجحة دون استخدام وجبة شهية”!
وهم أول من تحدث عن أثر الطعام اللذيذ على العلاقات الناجحة.
تأثير مائدة الطعام على نتائج مائدة المفاوضات (والتي قد تستمر أسابيع وشهور)، ويعود ذلك لمعرفتهم بما يدور في كواليس جلسات الغداء ومابعد الطعام _ حيث يذوب الجليد_.
يقول سياسي فرنسي مخضرم “فيليب فور” : لطالما استخدمت الدبلوماسية فن الطهي كطريقة لتحسين مناخ المفاوضات،وإضفاء جو من المرح والاسترخاء بين المتفاوضين؛ لاسيما خلال العلاقات المتوترة.
كان الجيش الإنكشاري (الفرقة العثمانية الأقوى)، قائمًا على نظام يعتبر فيه الطبخ موقع المركز . ويصفهم علي الوردي فيقول: «إنهم يعطون أهمية كبيرة للطبخ وتقديم الطعام، فهم يقدسون قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى في أوقات الحرب..إذ هم يعتبرون ضياعها أثناء الحرب أكبر إهانة تلحق بهم..ومن مظاهر اهتمامهم بالطبخ أن قائدهم الأعلى يسمونه “جورجي باشي” – أي طباخ الحساء» .
حيث كان الاقتران بين القيادة والطبخ ملموساً.
بعد أن كان تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام بحسب كارل ماركس انتقلت وجبة الطعام إلى مستوى عال” من الرقي بعد أن كانت مجرد حاجة فطرية؛ وأضحت محركاً في العلاقات الدولية، بعد ثبوت نتائجها في العديد من الحالات بمنع حصول كوارث دولية.
نذكر في هذه السياق ماقاله وزير نابليون قبل قرون عدة” تاليران”: (( أفضل معين للسياسي في الأزمات..هو الطباخ))!
وهو من وضع أسس دبلوماسية “طبق الطعام” وتأثير الأطعمة والأشربة على القادة.
فلا يفلت عقال اللسان أفضل من شريحة شهية من لحم الضأن وكوباً من عصير العنب.
بمنتصف القرن الماضي؛ نشرت “لوموند ديبلوماتيك” :(( باريس هي من ابتكرت فنون اتيكيت مائدة الطعام؛ واستمرت تأثيرها الإيجابي في الدبلوماسية)).
قالها الساخر الايرلندي ” جورج برناردشو”فيما مضى ( أوفى حب لدى البشر..هو حب الطعام)؛ وبشكل عفوي كانت الأمهات يوصين بناتهن من العرائس الحديثات العهد بأن تحل إحداهن مشكلتها مع زوجها؛ عبر طبقه المفضل.
ويروح عن كبيرة الطهاة بالبيت الأبيض “كابريسيا مارشال” قولها أن دبلوماسية الطعام شغلت حيزاً كبيراً من استراتيجية الرئيس كلينتون لدى استخدامه القوة الناعمة.
ونذكر أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين؛ استقبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك؛ مولماً له في رحلة نهرية بشارع أبو نواس الشهير في بغداد؛ وكان الطهاة بالزي الشعبي.. يقومون بشي سمك الموسكوف مع الرز البخاري؛ حدث عنها الكثيرون لسنوات..ورسخت صداقة بين البلدين.
لاننسى في نفس السياق: أن القمة الأمريكية_ الكورية؛ وصف فيها الجانبين قائمة الطعام “بالرائعة”!
وخلال المفاوضات الأمريكية_ الإيرانية بالشأن النووي؛ قامت مائدة الطعام بتقريب وجهات النظر، أما قبل ذلك فقد كان الطرفين يتناول الغداء بشكل منفصل؛ وبعد وليمة إيرانية تعاملوا كبشر، وخلال ١٠ أيام منها توصلا لاتفاق.
وهنا نعلق بأن فن الطهي وعلم الدبلوماسية يسيرون جنباً إلى جنب لتحقيق هدف مشترك.
وزارة الثقافة الإسبانية إوفدت مجموعة خبراء للشروع بمطعم تنقل ثقافة الطعام الأسباني ( موسكو، ستوكهولم، نيويورك، أوسلو..الخ)؛ وذلك للعمل بمجال إل gastrodiplomacy لكسب قلوب وعقول البشر في الدول الأخرى.
وهنا نشير إلى إن المطعم السوري بتفنناته قد انتشر( لاسيما خلال أزمة العشر سنوات الأخيرة في دول الخليج ومصر وأوروبا) وصار له رواده.
لوحظ _ عن طريق الإحصائيات_ أن أقل السجون في بريطانية شغباً هي تلك التي تقدم وجبات ساخنة متوازنة للنزلاء/ السجناء ؛ مما يدل على الارتباط الوثيق بين النزعة للعنف والجوع!
ختاما” خلال زيارة رئيس ألمانية لتركيا في أبريل الماضي، دعا عارف كيليس (والذي ينحدر من عائلة تقدم أشهى الكباب في برلين منذ نصف قرن): للطائرة الرئاسية. هذا تكريس للتواصل الدبلوماسي غير الشفوي؛ فدبلوماسية الطعام (gastrodiplomacy) هو ابتكار ثقافي حديث؛ لكسب القلوب والعقول للتعايش بين الشعوب.
======
تابع قناة صحيفة الجماهير في واتساب
https://whatsapp.com/channel/0029VaAVqfEFcowBwh1Xso0t
»»»»»
قناتنا على التلغرام: