بقلم عبـــــد الخـــــالق قلعـــــه جي
ما تعمدت التأخر يوماً في أن أصافحكم عبر هذه النافذة التي أحترم، لكنها تصاريف الحياة وتفاصيلها.. تأخذك من ذاتك ربما.. قريباً أو بعيداً لتلتمس بزوغ اللحظة منتظراً كما المسافر حين يشتاق الرجوع.
ساعات طوال حقيقة أمضيت وأنا أستعيدها من جديد استماعاً إلى عديد لقاءاته الإذاعية والتلفزيونية والأخرى التي كان فيها ضيفاً محاضراً.. ساعات طوال وبين يدي بعض كتب موشاة بإهدائه والتوقيع وفيوض من نزوع وإبداع ومحبة.
كأنه كان يسابق زمنه.. وبما أوتيه من سعة علم.. فصاحة وقوة واقتداراً وثقة ونرجسية.. يدفعك – وأنت تلتقيه – إلى أن تستفزه أكثر وأكثر لتؤجج في روحه لهيب الموج الذي لم يتكسر على شاطئ له يوماً وما هدأ.. وما استراح.
قف إن دنوت واقرع الباب.. واخلع حذاك فأنت في حضرتها والمقام.. لعلك إن أوتيتها – قواعد العشق – تحظى بالقبول، فتفتح لك قلبها وتأذن لك بالدخول.
يا لذلك الباب في الحي العتيق.. ما شهد وما روى.. شلالات من قصص.. وحبل سري مجدول نسجته قلعة وحجارة…. ” من باب المقام أحد أبواب حلب التاريخية رأت عيناي النور أول مرة “.. يقول..
“منذ طفولتي شئت الا أُشبه سواي.. قررت ان أكون نفسي.. أن أكون أناي ألا أكون سواي “. من هنا بدأت الحكاية.. فكان وكانت.
“مكتبة جدي في القبو أخذتني إلى أولئك الذين عبروا التاريخ ودونوا حضورهم في ذاكرته.. كنت أغبطهم.. قررت أن أكون واحداً منهم “.
بين مدرسة الاستقلال ومدرسة المتنبي بحلب كانت المرحلة الابتدائية ومنها إلى الإعدادية والثانوية في مدينة الطبقة.. “حيث الفسيفساء السورية البديعة وحيث كانت روحي تتعلم قراءة نوطه أجمل مقام سوري”.
لعله يشبه حجارة هذي المدينة إرادة وصلابة وعناداً… شهادات ثانوية ثلاث مضى بأولها إلى معهد دار المعلمين ليتخرج أولاً على دفعته.. الثانية انتسب بها إلى قسم الفلسفة بجامعة بيروت العربية.. أما الشهادة الثانوية الثالثة، فقد حملت طموحه إلى جامعة حلب.. كلية الآداب.. قسم اللغة العربية ليتخرج فيها متفوقاً ومتابعاً تحصيله العالي إلى أن حصل الماجستير والدكتوراه وليمنح شهادات شرف تمنحها جامعة حلب لأول مرة.
عبر ثمانية وعشرين اصداراً في القصة والرواية والنقد جاءت مفردات ابداعه، بالإضافة الى تحرير وتقديم اثني عشر كتاباً بالاشتراك مع آخرين ومئات من المقالات والندوات والمؤتمرات والأبحاث، ومهام رسمية وإدارية كثيرة شغلها داخل الوطن وخارجه، وحاز على جوائز وشهادات تقدير محلية وعربية.
في مثل هذه الأيام من عام ألفين وستة عشر وعلى مدى ساعتين ونصف الساعة جاء ذلك اللقاء.. لقائي الإذاعي المطول معه لبرنامج أعلام في حلب.. باب المقام وعبقرية المكان وسحره.. القلعة.. ملاذ للروح وتراتيل الصمت.. ” حميدة ” أمه.. حكايا الجدة ومكتبة البيت.. وكثير من محطات شكلته وكونته وصيرته كاتباً ومثقفاً وأستاذاً ومبدعاً.
مئة وخمسون دقيقة كانت.. كأني به سلسبيل وجد، من شقوق الأبواب والحجارة يتدفق جداول عشق طاب فيها البوح وغنى الهوى مليكة المدائن بتفاصيلها ووهج جمالها وسر أسرارها، وكثيراً من أوراق ذلك المتعب المعنّى المتيم المستهام.
في واحد من محاور اللقاء سألته: شئتَ أن تكون لا تشبه سواك، وتصر على أن تكتب اسمك في سجل الخلود.. هل هي نرجسية ترقى إلى حد الغرور؟ قال:
” لا هي إيمان بذاتي.. بأناي.. ثقة بقدراتي.. أنا تعبت على نفسي.. أنا لا أعرف من مسرات الحياة سوى القراءة والكتابة.. ذروة المتعة عندما آوي إلى طاولتي أقرأ وأقرأ ثم أكتب، وعندما أنجز نصاً أشعر أني امتلكت العالم”.
“حوامل الثقة لدي زاد مهم مخزون غني، وايمانك بأنك تستطيع أن تحفر اسمك ووجودك على حجارة المدينة وفي ذاكرة المدينة “.
سريعاً يمضي اللقاء بنا، ومعه نمضي إلى تفاصيل مكاشفة وجدانية شفيفة استعاد في بعضها تلك التي كان أحياناً – رغم كل هذا الجبروت الذي يخيل للآخرين – يأوي إلى نفسه فيبكي مثل طفل ذبيح.
سألته تخاف الموت؟ قال ” لا.. لكني أتمنى ألا يأتي مبكراً.. لدي أحلام.. لدي مشاريع.. أمنيات كبيرة وكثيرة أريد أن أحققها.. أومن إيماناً قاطعاً بأني أشبه حجارة حلب.. أشبه قلعتها.. ربما أموت على المستوى البيولوجي وسيحدث ذلك.. لكنني لن أموت على المستوى الاستعاري والمجازي سأموت وهناك حبل سري يربطني بحجارة هذه المدينة وسيحتفظ نضال الصالح بحضوره في التاريخ “.
هي ذي بعض الحكاية.. حكاية ابن باب المقام وهو يتلمس حجارة حلب ويقرأ للغد ذلك التاريخ الغافي على غبارها فينثره عبقاً من شغف وابداع وعطاء ليكون مكابدات من جمر ويصير معراجاً كما يليق بضوء وقد مياس وسهر للورد، وكما يليق بدرب مشى فيه سبعة وستين عاماً.. بدرب حلب.. حيث تستعيد الروح روحها وآخر التوق إلى معنى المعنى…
نضال الصالح الكاتب والأديب والقاص والروائي والأستاذ الجامعي لروحك الرحمة والسلام