بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
بذلاً لمهجته وأطيبَ مالِهِ
عوناً على تلك الحياة الضائقه
فاعلم هو الإيثارُ يَعْمُرُ جنّةً
وعلاقةً بين الخلائقِ رائقه
في أوقات الضيق والحرج والحاجة يُصبحُ من الضروري ظهور خُلق الإيثار في المجتمع، والذي يعني في أولى درجاته تقديمُ الآخر وتفضيله على النفس، وهو أعظم أنواع الجود وذلك بأن يُعطي لغيره مع حاجته، بل مع الضرورة والخصاصة.. وهذا لا يكون إلا من أصحاب الأخلاق العالية.
يقول علماء الفروق: إن مراتب العطاء ثلاثة:
الأولى: ألّا ينقصَه البذلُ، ولا يصعبُ عليه العطاء وهذه مرتبة السّخاء،
والثّانية: أن يعطي الأكثرَ ويبقى له شيئًا أو يبقي مثل ما أعطى، وهذه مرتبةُ الجود.
والثّالثة: أن يؤثر غيره بالشّيء مع حاجته إليه وهذه مرتبة الإيثار.
وقد قال ربنا تبارك وتعالى واصفاً حال الصحابة رضوان الله عليهم: {وَيُؤْثِرُون عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر: آية 9]
كيف لا وقد علّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى قولاً وفعلاً فقد ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهرَ لَهُ ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ ) قال أبو سعيد: فَذَكَرَ مِنْ أصْنَافِ المالِ مَا ذكر حَتَّى رَأيْنَا أنَّهُ لاَ حَقَّ لأحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ)أي في ما يزيد عنده من مال أو متاع أو طعام. رواه مسلم.
إن الإيثار خُلقٌ ليس من الخيال بل سمعنا به وقرأنا عنه في تاريخ أمتنا ونرجو أن نراه واقعاً في ربوع وطننا العظيم، من تلك المواقف ما ورد عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ -من الإرمال وهو فناء الزاد وقلة الطعام- أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ).رواه البخاري.
وتتكرر صور الإيثار في تاريخ أمتنا حتى أصبحت سمة تتوارثها الأجيال وخصوصًا بالأزمات وعند الحاجة وفي أيام الخوف والفاقة الشديدة فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا؛ فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ». صحيح مسلم
وفي وقتٍ من أوقات الحاجة والفاقة أُهدي لرجلٍ مِنْ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رَأْسُ شَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنَّا، قَالَ: فَبَعَثَه إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَتْهَا سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى الأَوَّلِ. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
ولقد ذهب ذلك الرعيل في الإيثار أبعد من بذل الحاجات والضرورات لقد بذلوا المُهج والأرواح ويؤكد ذلك حادثةٌ شهيرة تناقلتها كتب التاريخ والتي حدّث بها حُذَيْفَةُ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: “انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمِيَ، وَمَعِي شَنَّةٌ مِنْ مَاءٍ، أَوْ إِنَاءٍ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ مِنَ الْمَاءِ، وَمَسَحْتُ بِهِ وَجْهَهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ يَنْشَعُ، فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ: أَيْ نَعَمْ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِيَ أَنْ أَنْطَلِقَ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ أَخُو عَمْرٍو، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ؟ فَسَمِعَ آخَرَ فَقَالَ: آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامٌ: أَنْ أَنْطَلِقَ بِهِ إِلَيْهِ، فَجئْتُهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِيَ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ” رواه البيهقي في شعب الإيمان.
ما أحوجنا في هذه الأوقات أن نُعيد إحياء هذا الخُلق العظيم في أرجاء بلادنا، لنرتقِ به من سحيق الأنانية إلى قمم الخيرية، لنتخلّق به وفاءً للإنسان، ورفضاً للحرمان، ومرضاةً للديّان.
ما أحوجنا إلى الإيثار الذي يبني ولا يهدم، يُعطي ولا يحرم، معدنُ السيادة للباذلين؛ ومولّد السعادة للآخرين.