كبة أبو مفيد.. طبق تراثي يتحول إلى مصدر رزق مستور

الجماهير || أسماء خيرو..

في زاوية من زوايا مدينة حلب، تقف قصة “أحمد عقيلي، الملقب بأبو مفيد” كشاهد على إصرار الإنسان وحبه للعمل. كان أبو مفيد في ما مضى من أمهر صناع “البوابيج النسائية”، لكن الأزمات التي مرت على البلاد أجبرته ذات يوم على مغادرة محله الصغير في الشعار، حاملاً معه مهاراته وصبره الحرفي، ليستقر في حي الجميلية، حيث قرر أن يكتب فصلاً جديداً من حياته.

مصدر رزق مستور

بعد النزوح، لم يجد أبو مفيد خيارًا إلا أن يحول إتقانه لصناعة الأحذية النسائية إلى فن جديد: “الطبخ”. يقول: “السوق لا يمل من طلب الأكل، ولأني أتقنت أسرار صناعة الكُبب والمشاوي، قررت صناعة وبيع الكبة المشوية”. بدأ العمل بمساعدة زوجته في منزل متواضع، حيث ينقع البرغل ويعجنه، ومن ثم يشكله إلى أقراص دائرية، ثم يشويه على الفحم، ليتحول العمل إلى مصدر رزق “مستور”، كما يقول، بابتسامة تختزل سنوات من التعب.

سر كبة أبو مفيد

على مدى اثني عشر عامًا، لم يتغيب أبو مفيد عن زاويته في الجميلية، يُحضر الفحم كل صباح، ويعد كُبته التي صارت علامة في حلب. “الزبون لا يتراجع، حتى مع ضعف السيولة”، يردد بفخر، مشيرًا إلى زبائنه القادمين من كل المناطق، بل ومن خارج المدينة، ليتذوقوا “الكبة المشوية” التي يحفظ سرها: شحمة خروف مُتبلة ببهارات حلبية، برغل منقوع، فليفلة حمراء، وبصل، تُشكل على هيئة أقراص دائرية ثم تُشوى على نار هادئة، تمامًا كما كان الأجداد يفعلون في حلب، حين كان هذا الصنف طعام الفقراء وكان من المعيب أن يأخذ القصاب ثمن الشحمة.

تجربة ممزوجة بالحب

اليوم، يقف أبو مفيد أمام المنقل والفحم المتوهج، يحسب الأرباح بهدوئه المعتاد: “الربح بين 50 و60 بالمئة… لكن الراحة أغلى”. ثم يُردف: “التجربة علمتني أن النجاح لا يكمن في المكونات فحسب، بل في الحب الذي يعجن مع كل قرص كبة”.

سر الكبة المشوية

لا يكتمل سر كبة أبو مفيد دون الحديث عن شوايته القديمة، التي رافقته منذ اليوم الأول، فهي ليست مجرد أداة طهي، بل شاهد على آلاف القصص. شواية من حديد أسود تمنح الكبة لمسة تدخين وقرمشة ذهبية تذوب في الفم. يحرص أبو مفيد على إشعال الفحم بنفسه، مؤمنًا أن “النار كالإنسان، تحتاج إلى من يفهمها”.

وجوه حول أبو مفيد

ركن أبو مفيد ليست مكانًا للطعام فحسب، بل نقطة لقاء يومية. هنا يلتقي الأصدقاء ليستعيدوا ذكريات الماضي مع كل لقمة، بينما يلهث الزبائن خلف الطعم الذي لا يُقاوم. تقول إحدى الزبائن، وهي تنتظر طلبها: “كبة أبو مفيد ليست طعامًا، بل شعور بالحنين إلى الماضي”. ولا ينسى الرجل أن يلقي نكتة أو يستمع إلى هموم زبائنه، معبئًا طبقهم بحبات كبة إضافية “عالبيت”.

إرث يصنع باليد والقلب

يصر أبو مفيد على مواصلة عمله، مؤكدًا أن “الشارع هو بيته الثاني”. وربما لن يُدون اسمه في كتب التاريخ، لكنه حفر مكانته في قلوب الناس بصنف صنع من الإتقان فنًا، ومن الكبة المشوية ترنيمة للبساطة والأصالة. وهكذا يصحو الزقاق كل صباح على رائحة الكبة المشوية التي تحمل عبق الماضي وحلاوة الحاضر، شاهدة على أن الأطباق التراثية لا تُصنع باليدين فقط، بل بالقلب أيضًا.

#صحيفة_الجماهير

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار