من تحت الأنقاض إلى بناء مؤسسات الحياة

بقلم محمد سلام حنورة …

 

في زاوية مشرقة وسط العتمة الطويلة التي عرفها السوريون لعقود، يطلّ علينا حديث وزير الطوارئ وإدارة الكوارث السيد رائد الصالح، لا كتصريح رسمي جديد فحسب، بل كعلامة فارقة في مسار يخطّه السوريون بإرادتهم، من بين الركام، نحو إعادة صياغة علاقتهم مع الحكومة، ومع مفهوم “الاستجابة” نفسه.

حين يقول الصالح إن الخوذ البيضاء بدأت قبل 12 عاماً من الصفر، بعد أن تخلى العالم عن سوريا لأقدارها، ثم أصبحت واحدة من أهم منظمات الإنقاذ في العالم، فإنه لا يروي حكاية مؤسسة، بل حكاية شعب قرر أن ينقذ نفسه بيديه. في واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ سوريا الحديث، خرج متطوعون من تحت القصف والأنقاض، لا يحملون إلا نداء النجدة، وردّوا عليه بالفعل.

لكن النقلة النوعية التي يشير إليها الوزير اليوم تتعدى قصة الصمود الفردي إلى بناء مؤسسة وطنية كاملة، هي وزارة الطوارئ وإدارة الكوارث، التي تعكس تحوّل “العمل الإنساني” من ردة فعل إلى استراتيجية وطنية، تُبنى على أسس علمية وتجارب دولية (كما أشار إلى دراستهم لتجارب 17 دولة) وتتمحور حول المواطن لا السلطة.

ولعلّ أحد أبرز الملامح الإنسانية التي تضمنتها تصريحات الوزير هو الحديث عن دمج الخوذ البيضاء ضمن الوزارة الجديدة، ليس فقط تقديراً لتضحياتهم، إذ فقدوا 10% من كوادرهم خلال أداء مهامهم، بل لأن هذه المؤسسة التطوعية أثبتت فعالية نموذجها القائم على المبادرة الشعبية والتدريب والتوثيق والمساءلة.

نعم، لم تكن الخوذ البيضاء مجرد فرق إنقاذ.

كانوا شهوداً على الجريمة، ووثقوا المجازر بينما كانوا يسحبون الأطفال من تحت الأنقاض، وهذا يفسر حرص الوزير الصالح على التأكيد بأن الوزارة لن تضم أي شخص تورط مع النظام البائد في جرائم أو انتهاكات.

إنها محاولة أخلاقية قبل أن تكون إدارية لإعادة تعريف الدولة كمكان للحماية، لا للقمع.

ثمة بعد إنساني آخر لا يقل أهمية: تأسيس إدارة للتطوع، وتدريب الشباب داخل المدارس والجامعات، والسعي لوجود متطوع في كل بيت سوري.

إنها ليست فقط فكرة واقعية في ظل المخاطر المستمرة من زلازل وألغام ومخلفات الحرب، بل محاولة لإعادة بناء النسيج المجتمعي السوري .

وإذ أعلن الوزير عن نية إنشاء مركز وطني لمكافحة الألغام، ومعهد لدراسات الزلازل، وأكاديمية للتدريب، فهو يرسم خارطة طريق لمستقبل تستعيد فيه سوريا أبناءها  كخبراء إنقاذ، ومتطوعين، ومهندسين في بناء الغد.

ليس الحديث هنا عن وزارة فحسب، بل عن تصحيح جوهري لوظيفة الحكومة. فحين تصبح الاستجابة للكارثة جزءاً من السياسات العامة، وحين يتحول المتطوع إلى ركن من أركان الأمن المجتمعي، فإن سوريا تقترب – ولو بخطوات أولى – من مرحلة تعميق الثقة بين المواطن والحكومة .

ربما لا يزال الطريق طويلاً حتى إعلان سوريا خالية من الألغام ومخلفات الحرب، كما يقول الصالح، لكن إعلان وجود هذه الوزارة هو في ذاته خطوة أولى في معركة أكثر أهمية: معركة اعادة بناء وطن بات بحاجة إلى كل يدٍ تبني، وكل قلبٍ ينبض بالأمل.

فمن بين الركام، تبدأ الحياة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار