حلب ـ الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
لا تَحْكُمَنَّ على حياتِك بالفنا …
وانظرْ بعمقِ النفسِ تكتشف الـهَنا
بالفِكرِ تزدهرُ الحياةُ وترتقي …
وبفعلِك الخيراتِ يَرْتَفِعُ البِنا
إن المتأمل للكون – من أي مكانٍ يسمحُ له بهذا التأمل – سوف يقف أمام حقائق كثيرةٍ تُدهِشُهُ. منها أن هذا الكون دائم الحركة ومستمرّ التطوّر، وإذا بقي الإنسان فيه جامداً لن يحقق أي تقدمٍ في الحياة غير تقدمه الطبيعي وأعني به آثار حركة عمره اللاإرادية التي تبدو على جسده أولاً؛ فيتقدم به السن رغم أنفه، وتجتاحه أعراض دورة الحياة، والتفاعل البدائي من أجل تلبية حاجياته الأساسية لاستمرار الحياة ثانياً.
إن التطوّر سمةُ هذا الكون بشكلٍ عام فالإنسان يبدأ جنيناً ثم طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم عجوزاً ثم يُنْزَعُ عن روحه جسدَه الدنيوي ليبدأ حركته الجديدة في عوالم أُخرى. وما يَصْدُقُ على الإنسان يَصْدُقُ على كل مخلوقٍ حي في هذه الدنيا من حيث الحركة الدنيوية؛ وحدها الصخور والجبال والمتحجرات لا تتبدل وتبقى في مكانها يَلُفُّها صمتها الأزلي بجلبابٍ من وقار، تقف على طرف الحياد لتشهد تقلبات المخلوقات وتبدلاتهم وحركتهم المستمرّة، هذه الحركة التي تجعل من صاحبها إما محطَّ اهتمام أو عدم اكتراث.
وهنا يحق للمرء العاقل أن يتساءل: كيف يمكن للإنسان أن يَعيَ ما حوله، ويدركَ ما يحيط به من التغيرات والتبدلات ويتفاعل معها ويكون له أثرٌ بها؟ كيف يرتقي بنفسه وبمحيطه ليكون جديراً بمواكبة حركة الكون الدائمة واللامحدودة؟
ولعلني أستطيع أن أُدلي بإجابةً عن تلك التساؤلات عبر ذكر أهم سُبُل الارتقاء بالنفس والمجتمع والتي تتوالى ضمن سلسلةٍ منطقية تبدأ بالتعرف على الذات، فينجم عن ذلك التفكير المتجدد؛ والذي بدوره يدفع إلى العمل الخلّاق. وبصورةٍ أكثر توضيحاً نقول:
التَّعرّف على الذات: قال تعالى داعياً الإنسان ليتعرّف على ذاته: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21]، وما تلك الدعوة من الإله لخلقه إلا ليتمكنوا من الوقوف على إمكانياتهم فلا يقصرونها بما اعتادوا عليه بل ليطوّروا من أنفسهم لأنه سبحانه خلقها قابلةً للتطوّر والارتقاء؛ وإلا فكيف يُصبحُ المرء عالماً وقد كان جاهلا ؟
إن التعرف على الذات ينبغي أن يكون باستمرارية لا تعرف الكلل؛ لأنه كلما ازددنا تعمّقاً في معرفة ذواتنا ازددنا معرفةً لعيوبنا وأزماتنا مما يزيدنا قدرةً على إيجاد علاجٍ وحلولٍ لتلك العيوب والأزمات.
لذا فإنه يخطئ من يشعر بأنه وصل إلى النهاية في معرفة نفسِهِ لأن هذا سيقوده إلى الجمود والقصور وتبرير العجز والكسل؛ وهذه الأشياء تمثِّل العائق الأكبر في وجه التنمية. وبالمُقابل فإن مزيداً من اكتشاف النفس يعني مزيداً من اكتشاف فرص الارتقاء والتقدّم.
التفكير بشكلٍ متجددٍ وعدم الجمود: قال تعالى:{ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء:36] هذه الآية القرآنية تدعو الناس لعدم التبعية العمياء وعدم التسليم لأفكار الغير بل تدعوهم إلى السير على هدُىً يوصلهم في نهاية المطاف إلى الحق إذ إن ابتكار أسلوبٍ جديدٍ في التفكير وعدم الركون إلى النَّمطية والتبعية؛ والتخلي عن الجمود، وعدم الحُكم المُسبق على الأشياء، وإعطاء مساحة كافية في الحياة للتجربة واكتساب الخبرة؛ كلُّ ذلك يمنحُ صاحبه آفاق واسعة في الحياة لم تكن معروفةً له قبل ذلك.
إذ ليست الحلول التي طُرحت لمشكلاتٍ في القرون الماضية تُطرحُ لتساهم في حل مشكلاتٍ معاصرة، ولا يمكن أن ننكر تغيّر الأحكام عندما تتغير الأزمان -كما تصرّح القواعد الفقهية – وبالتالي فإن امتلاك الفكر لروح العصر والاستفادة من مزاياه المتطوّرة مع وجود الثوابت المبدئية غير المتغيرة (المرجعية) في القيم الإنسانية هما معاً يشكلان جوهر التطوّر والارتقاء.
العمل الخلّاق: ويتمثّل في نُكران الذات وترك الشهوات والأهواء، ودفع عجلة العمل الصحيح إلى الأمام، فالكسل ليس خلاقاً، والنفعية المجحفة والطمع والانتهازية ليسوا أعمالاً خلاقة، فالعمل الخلاق هو الذي يُمارَسُ على أرض الواقع لنفع المحيط، لنفع المجتمع، لنفع الأمة، فالموظف أو المهني أو العامل في أي منحى من مناحي الحياة عندما يعمل بإخلاص دون عرقلة للمصلحة العامة، يكون قائماً بالعمل الخلّاق، العمل الذي لا يخجل من إطلاع الخالق والمخلوق عليه. قال تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}[التوبة:105]؛ وبطبيعة الحال فإن العامل أو الموظف المرتشي، ومن يُسخّر منصبه وقراراته لمصلحته الشخصية يمارسون أعمالاً مُخْجِلَة ومعيبة وفاسدة، وهم يشكلون سداً من السدود المانعة لرقي المجتمع وتمدّنه.
فيا ربنا نقّي وطننا من الفساد وأهله وأعد علينا عوائد الخيرِ وفضله.
قد يعجبك ايضا