الجماهير ـ الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
ليس الكلام للتعبير عن الإنسان المعتادة فقط بل هو رسول المشاعر وسفير الأحاسيس، هو لسان العقل ومفتاح تجليات القلوب.
إنه عنوان المرءِ، يُتَرجِم عن مُستَودعاتِ صَدره، ويبرهِن على مكنوناتِ قَلبِه، ويدَلِّل على أصله وعقلِه.
وإذا كانت الحياة بحراً مترامي الجنبات وبعيد الأعماق فإن الكلام هو الصانع الحقيقي لسفينة النجاة التي تستطيع أن تمخر عبابه.
ويُظهر الكلام للمستمع صفات الكمال في الإنسان من رجاحة العقل والرصانة وغير ذلك، تماماً كما يُظهر للمستمع النقص والخلل، فالكلام معيار وميزان للبشر؛ إنه يرسم ملامح قائله، ويُعطي انطباعاً قوياً عن أبعاد شخصيته وعمقها، إنه مؤشّر واضح لاتزان المرء ورجاحة عقله.
وها هو نبي الله يوسف الصديق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في قصته الشهيرة، يطلبه الملك بعد أن سمع من النسوة تبرئته: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) [ سورة يوسف:54]، فلما كلّمه، وسمع منطقه، وعلم من كلامه صدقه، قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ).
ولأهمية الكلمة كان التوجيه الإلهي للبشرية من خلال أمره سبحانه في القرآن الكريم أن يُحسنوا القول حيث قال:{وقولوا للناس حُسنا} .
فالكلمة الطيّبة رصيد عالٍ من الرقي في الدنيا والآخرة، والكلِمة الخبيثة خسارة كبيرة، وقد ضرَب الله لهما فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم:25-26].
وكان نُصح رسول الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان، لكي يحافظ على صورةٍ صالحةٍ له، ويحظى بالخير الجزيل في الدنيا والآخرة إذ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم مُنبهاً على عظيم أثر الكلمة: (إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوِي بها سبعينَ خريفًا في النار) رواه الترمذيّ وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟! فقال: (ثكِلتكَ أمّك يا معاذ! وهل يكُبّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!) أخرجه الترمذي.
ولقد اشتهر قول سيدنا الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه: الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام.
إذا لا يمكن أن نعتبر الكلام مجرّد آلة للتعبير عن حاجات الإنسان المعتادة بل هو الإنسان نفسه بكلّ تقلباته ومكنوناته، وقد تختفي ملامح شخصيته وراء عباراته المتأنّقة.
ولا شك أن أسلوب الحديث هو الذي يشكل الانطباع الأول لدى الآخر ليسمح بالتقبل أو عدمه.
وقد أُثر عن الفيلسوف سقراط قوله لأحد تلامذته: تكلّم حتى أراك. أي حتى أرى ملامحك الحقيقية من خلال ما تنطق به، لتنجلي وتتجلى الصورة الصحيحة لشخصيته.
والمستقرئ لتاريخ الأمم سيجد أن نسبةً عاليةً من الحروب كان سببها قولٌ باطل وحوارٌ فاشل، بطله شخصٌ غافل وآخر جاهل.
وقد نطق الشاعر زهير بن أبي سلمى بالصدق حين قال:
ومَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَليِقَةٍ…
وإنْ خَالَها تَخْفَى عَنِ النّاسِ تُعْلَمِ
لِسانُ الفَتَى نِصفٌ ونِصفٌ فُؤَادُهُ…
فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ والــدَّمِ
رقم العدد 15635