الجماهير .. المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي الجمهورية
أعرفه منذ أكثر من نصف قرن.
منزل أهله كان في مدخل ساحة فرحات بحلب ، وكان يكبرني بستة أو سبعة أعوام.
كان رئيسي في فرقة الكشاف، وكنا نتردد الحوش العربي التي كان أهله يقطنونها، وكنا نلعب بها نظرا لوسعتها ولتقارب أعمارنا أنا وأخي مع أخيه الأصغر الذي كنا نناديه “لودي” وأسمه الحقيقي مركب “لويس فادي”، اما اخته فكانت “مارسيا”.
كنا صغارا وأحلامنا لا تتجاوز اللعب في الحوش أو في الساحة التي تطل عليها أو تؤدي إليها عدة كنائس.
اسمه كان “صديق” وكنيته “صدق” وعندما انتقلنا إلى مرحلة الشباب كان السفر إلى كندا هو هاجسه.
أتكلم عن أكثر من ثلاثين إلى أربعين عاما.
سافر وعمل وكان يعود إلى حلب كلما أتيحت له الفرصة.
يعود ليأكل الفول عند حج عبدو ويسير في أحياء “الجديدة” و “قسطل حرامي” و “قسطل المشط” و ” الهزازة” وغيرها.
يأخذ مؤونته من حلب، المؤونة المعنوية والمادية.
يستنشق عبير حلب من خلال الرائحة الذكية في سوق العطارين.
يشبع من رؤية أقربائه وأحاديثهم وأخبارهم.
كنت أرى الفرحة في عينيه عندما يأتي إلى حلب … لكنها الفرحة الممزوجة بألم الفراق.
هنا الكل يعرفه باسمه الحلبي “صديق” أو “ابو فتوح” علما بأنه لم يتزوج ولكن درجت العادة على تسمية الإنسان بأبو فلان ويأخذ اسم والده وهو هنا “فتح الله”.
عندما سافر إلى كندا تغير اسمه من “صديق” إلى “جوزيف”.
حتى الأسماء في الهجرة تتغير، نشعر أن الهجرة تقتلعنا من جذورنا… وعندما كان “أبو فتوح” يأتي إلى حلب كان يسترد هويته.
في إحدى المخيمات بكسب مرضت ولم أستطع السير أو الوقوف، فحملني من المخيم في كسب على كتفيه ثم نزل معي إلى بيتنا في اللاذقية وايضا حملني على كتفيه.
سأفتقد كل اسبوع اتصالك الهاتفي لتقول لي “اهلين اوستاااذ باسل” ونضحك وأناديه “أبو فتوح الملك” ونتحدث واخبره عن أحوال حلب التي عشعشت في حناياه.
كم كنت أود أن أحمل نعشك على كتفي كما حملتني منذ أكثر من نصف قرن على كتفيك.
لعن الله الغربة والهجرة.
نغير الأسماء وطرق العيش ونتمزق بين سورية التي عشناها وبين مدن لا نملك فيها ماضي.
رحمك الله “أبو فتوح الملك”
ولد في سورية باسم “صديق” ومات في كندا “جوزيف”..
لكني فقدت واحدا فقط..
وقلبي حزين لأنه أفتقدك..
اللهم اشهد اني بلغت.
رقم العدد 15666