الجماهير / بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
منذ أن خلق الله تعالى الخلق ظهر التباين والاختلاف بينهم، فمنهم الكبير ومنهم الصغير ومنهم الطويل ومنهم القصير ومنهم الجامد ومنهم المتحرّك، لا يُمكن للمرء أن يُنكر هذه الحقيقة الكونية أبداً.
الاختلاف مُنبثقُ التنوّع في الحياة ومُظهرُ الجمال في هذا الكون، وهو الذي يُثبتُ ذاته كأهمّ سببٍ للتطوّر الحضاري.
إذ السعي الحثيث لشعوب البشريّة في إثبات تميّزها والجهد الذي يبذله الفرد والمجتمع في تحقيقٍ هدفٍ ما، والحضارات التي نشأت على الأرض البكر ما هي إلا دليلٌ على جدوى الاختلاف وفاعليته في البناء.
على أنه يوجد مناحٍ سلبيةٍ للاختلاف يمكن للأخلاق أن تعالجها وتسمو بها لتصل إلى مراحل مُتقدمةٍ من الخير والفضيلة.
هذا الاختلاف يقف أمام المتأمّل له بإنصاف كلوحةٍ فنيةٍ بديعةٍ تبهج الفكر وتمنح العقل طُرقاً للتطوير، وأُسساً للتفكير.
ومن هنا كان قبول الآخر بكلّ ما يحمل من الاختلاف سبيل الوصول إلى مجتمعٍ قويٍّ يبني ولا يهدم، إذ الآخر ينتقد فتُصبحُ الصناعة أكثر إتقاناً، والآخر يراقب فتُصبحُ التعاملات أقرب صوابيةً، والآخر ينصح فتُصبحُ التصرفات أرقى وهكذا…
والحقيقة أن ثقافة قبول الآخر في الحياة تمرُّ بمراحل عديدة بحسب البيئة والموروث الثقافي وواقع المجتمع الذي يعيش فيه، فهناك مرحلة القبول الفطري وتتمثل ببداية حياة المولود فهو يولد فتنشأُ بينه وبين الآخر علاقة التعلّق والآخر هنا هو الأم، ثم تتعدى علاقته بالآخر مع مرور الزمن إلى الآخر الذي يرعى ويُلبي الحاجات “الأب” ثم إلى الآخر الذي يُشاركُه السرير واللعب “الأخ” ثم في المدرسة تتسع دائرة الآخر وتتحتّمُ فكرة قبوله.
وتأتي مرحلةً أُخرى في طور تكوين الشخصية والشعور بالذات حيث ينظر الشخص إلى الآخر القادم من أُسرة مغايرة أو حي مغاير أو مجتمع مغاير؛ ينظر إليه على أنه مخطئ وأن تصرفاته لا يمكن أن تكون مقبولة لديه فيلجأُ لإقصائه وإلباس تصرفاته لبوس الخطأ، وهذه المرحلة يمكن لها أن تطول أو تقصر بحسب ما يحمله الشخص من تربية وأخلاق.
ويستحضرُ الشخص ثقافة قبول الآخر إذا رأى أنه لا بدَّ منها لنجاحٍ يُراد، أو لمنفعةٍ تُجنى، أو لمفسدةٍ تُدفع، وهنا ينتقل إلى مرحلة التغاضي عن الاختلاف والتمسك بنقاط الاتفاق التي تُحقق تلك المصلحة المُشتركة.
ويأتي التفكيرُ بالآخر في أثناء مرحلة التغاضي عن الاختلاف، مما يفرض نظرياً وضعُ النفس مكانه والمناقشة الذاتية للأسباب التي جعلته مختلفاً فتنشأُ مرحلة التفاهم والتّفهّم لاختلاف الآخر، مما يؤدي إلى القناعة الذاتية بقبوله.
ونستطيع أن نستحضر مثالاً على ثقافة قبول الآخر من تاريخنا المجيد حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة المُكرّمة إلى المدينة المنورة أرسى هذه الثقافة بشكلٍ عملي وأيّدها بمفهومٍ فكريٍ قوي.
أما إرسائه لثقافة قبول الأخر عملياً فقد آخى بين المهاجرين والأنصار فعاشوا في مجتمع المدينة المنورة رغم اختلاف الفكر والعادات.
وأما تأييده صلى الله عليه وسلم لقبول الآخر بمفهومٍ فكري فقد ورد في صحيح البخاري أنه قال: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) ففي هذا الحديث بيانٌ واضحٌ لثقافة قبول الآخر والتعايش إذ في الانعزال والانكفاء إيذاءٌ ليس للآخر فحسب بل لكلّ الأطراف.
إذاً فثقافة قبول الآخر ليست من قبيل الرفاهية الفكرية بل هي ضرورةٌ مُجتمعية وحضاريةٌ تجب على كل مجتمعٍ إنسانيٍ حريصٍ على الحياة.
وللوصول إلى تلك الثقافة لا بدَّ لنا من القيام بعدد من الخطوات أهمها:
تحقيق الاكتفاء الذاتي لحاجيات مجتمعنا واتاحة الفرصة للجهد الفكري أن يُسعى للتطوير بدل الانشغال بحاجاته اليومية.
تلقين ثقافة قبول الآخر لأطفالنا منذ وقتٍ مُبكّرٍ عبر تطوير مناهج التعليم لزرع ثقافة قبول الآخر.
تعميق الخطاب الديني المُعتدل الداعم لثقافة التسامح وقبول الآخر.
توجيه وسائل الإعلام المختلفة كي تؤكد على ثقافة قبول الآخر ونبذها لكل الثقافات التي تشجع على التعصب والتطرف والعنف.
إن ممارسات إلغاء الآخر أو تهميشه وسيادة المفاهيم الاقصائية تزيد من تفكك المجتمع وتُعمّقُ الفجوة بين أفراده وتُنبتُ الحقد والكراهية في النفوس.
لنكن أنفسنا، ولنحافظ على خصوصياتنا، ولنعتزَّ بخصائصنا؛ ولكن لنضع الآخر في المكانة التي نرتضيها لأنفسنا، وليكن الانصاف والاحترام أولى أولوياتنا في التعامل مع الآخر، في حينها تكون حضارتنا أرقى الحضارات لأنها تجمع في مكنونها كلَّ العطاء والجمال والجلال.
رقم العدد ١٥٩٠٨