” الجماهير” تقلّب في حوار بعضاً من أوراق النحات والرسام بشار البرازي : دمشق جعلتني أهيم بها عشقاً وحلب جذبتني لأستقر .. أعمالي النحتية مقتطعة من الحياة ومستقاة من الصوفية .. اللوحة تخلد الحياة والفن التشكيلي يفتقد للمرجعيات
الجماهير – أسماء خيرو
في لوحاته لمسات إنسان هام بالتعبير الفني الجمالي فخلد الحياة بنبضات اللون الذي يثير في داخلك انفعالات ودوامات مختلفة فألوانه الجامحة تأخذك إلى عالم من العشق والانتظار والقلق والصخب والتمزق والتشتت وألوانه الهادئة تفتح لك نوافذ الأمل وآفاق من الحرية والتأمل الهادئ يحاور باللون الحياة بمختلف تناقضاتها ويبوح باللون بأحاسيس مدهشة وبأفكار متزاحمة وحروف أبجدية ومشاعر متأججة وومضات أمل أتقن صياغة أسلوبه المتميز في النحت والرسم فكان ” للجماهير ” وقفة لقراءة بعضاً من أوراق حياة النحات والرسام بشار البرازي .
المرأة وأساتذتي هم من غيروا قدري
كل منا يحمل في داخلة ذكرى البداية سواء كان شاعراً أو مفكراً أو أديباً أو فناناً أو إنساناً عادياً ربما تكون داكنة أو مشرقة نحن إليها حيناً من الأوقات لأنها تعتبر السطر الأول الذي سجل مشواراً كاملاً من الحياة حدثني عن الذكرى التي سطرت بداية بشار البرازي وأرخت مسيرته كنحات ؟
حكايتي مع البداية أنا أعتبرها قدراً يأخذ الإنسان حيث يشاء لذلك سأخبرك عن القدر الذي أرخ السطر الأول في مسيرتي وجعل مني نحات ورسام وليس مصور فوتوغرافي .
في شبابي كنت أطمح أن أحترف فن التصوير لذلك بعد حصولي على شهادة الثانوية قررت أن أسجل في قسم التصوير وفي كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق كما تعرفين هناك أقسام عديدة لمختلف الفنون ومنها كان قسم النحت داخل هذا القسم لاحظت فتاة من بعيد تعمل في القاعة على منحوتة ما , هذه الفتاة لفتت انتباهي وأسرت قلبي وجعلتني أعشق فن النحت وأغير مسيرتي الفنية من فن التصوير إلى فن النحت والتي هي” زوجتي الآن” نعم يمكن أن أقول “المرأة “هي من غيرت مسيرة بشار البرازي المهنية وأضيفي إلى ذلك أساتذة عظماء زرعوا حب فن النحت في قلبي مثل ( محمود شاهين – وعبدالله السيد -ووديع رحمة ) وغيرهم فأنا حتى أكون صادقاً لم أفكر أن أكون نحاتاً يوماً ما ولكن المرأة وأساتذة كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق كان لهم دور كبير في احترافي فن النحت إضافة للجو العام لمدينة دمشق الذي كان مؤثراً يجعل الشخص يحب الاستمرار .
ما بين دمشق وحلب
قلت إن المكان له تأثير وسحر على الإنسان هذا السحر جعلك تعشق دمشق وترغب في الاستمرار في فن النحت صف لي سحر المكان ولماذا حلب هي كانت الاستقرار كونك ابن مدينة السلمية ؟
أنا لا أخفيك قولاً المكان كان له تأثير كبير على مسيرتي الفنية فدمشق بسحرها تشد الشخص وتؤثر فيه على نحو كبير بطريقة عجائبية لديها على ما يبدو وسيلة جعلتني أهيم فيها عشقا غصباً عن إرادتي إنها بتعبيري الخاص كالعشيقة فإما أن يقدم لها الإنسان المحب فروض الولاء والطاعة ويفرط بها هياماً ويذوب فيها عشقاً أو عليه الانسحاب منها تماماً، دمشق أجبرتني على عشقها وجعلت مني عاشق لفن النحت أما حلب بسحرها الذي يشبه الأم الحنون التي عطاؤها يكون دون حدود تمنح كل شيء ودون أي مقابل هذا السحر المغلف بالعطاء اللا محدود جذبني لتكون حلب ملاذاً للاستقرار لذلك بعد الزواج فضلت أن تكون حلب المكان الذي أسست فيه بيتا لأسرتي وانطلقت منه إلى عالم الفن والجمال.
أعمالي مقتطعة من الحياة و مستقاة من الصوفية
والآن لنترك الأقدار والأمكنة ولنتحدث عن أول معرض نحت أقمته وما هو الأسلوب الذي تميزت به كنحات ؟
بعد استقراري في مدينة حلب كنت في مرحلة تأسيس وهذا تطلب مني في البدء إنتاج أعمال تجارية ( كالطباعة على الألبسة والرسم على الفازات ) وغيرها وبعد فترة نظمت معرضاً فردياً في صالة الخانجي وكان ذلك أول معرض لي في حلب تضمن ٣٠ عملاً نحتياً انطلقت منه كفنان له أسلوبه الخاص استقيت مضامينه من الرقصة الصوفية لجلال الدين الرومي والتي ترمز إلى أنه كلما زاد الدوران زاد الاقتراب من مركز الآلهة وزادت حالة التصوف والإيمان حيث اشتغلت على الخط بالفراغ وليس على الكتلة بالفراغ فأغلب النحاتين كانوا يعملوا على الكتلة الضخمة بالفراغ ولكن أنا اشتغلت على الخطوط المعدنية بالفراغ، اختصرت كل حركة التصوف والرقصة المولوية بالدائرة في العديد من المنحوتات فكانت الرموز لدي خطوط معدنية مع حركة الرأس للرقصة المولوية واليدين والطربوش فتنوعت أعمالي ما بين الشكل الإهليجي والشكل الدائري الذي يرمز للتصوف.
مضيفاً : أعمالي النحتية الأخرى جسدت فيها ملحمة جلجامش عبر ثلاث مراحل : الأولى مرحلة الحيوانية والعيش في الغابة والثانية الأنسنة والثالثة المدنية إضافة إلى أني عملت منحوتة جدارية بطول أربعة أمتار اشتغلت فيها على شخصية “انكيدوا ” في ملحمة جلجامش فكان لي أسلوب خاص تميزت به ويمكن أن أقول أني صنعت مشهداً مقتطعاً من الحياة.
اللوحة تحقق الهدف بقراءتها المختلفة
كنحات له أسلوبه الخاص المميز ما الذي جعلك تتجه نحو الفن التشكيلي وكيف للألوان أن تتحول إلى وجود وتحكي قصصاً كاملة ؟ وما قصة الشباك والخرزة الزرقاء التي تميز جميع لوحاتك ؟
اتجهت نحو الفن التشكيلي بسبب ظروف خاصة بي منذ عام ٢٠١٠ حيث بدأت أعبر باللون عن مشاعر تحتدم في أعماق النفس كالعشق والكره والهدوء والصخب والحزن والسعادة لأحكي عبر هذه المترادفات عما يجول بين أضلاع الإنسان ووجدانه إضافة إلى الحالات الإنسانية كالخطيئة الجميلة والدمار والعبث المسرف والفوضى ففي عدة لوحات جسدت الفوضى بكل ما تعني الكلمة فيمكنك أن تلحظي داخل تلك اللوحة التي أمامك عدم التوازن فالموت اختلط بالدم والقذائف والدمار ناهيك عن فسحة من الأمل في الفراغ الموجود في اللوحة ، لقد جعلت اللون يتكلم يعبر عن كل تلك الحالات مجتمعة في آن واحد وللقارئ أن يفسر ما ترمز له اللوحة سواء كانت ترمز للدمار النفسي – أو العشق- أو الخطيئة المقدسة- أو الصراع المتمرد فاللوحة كل ما كان لها قراءات مختلفة كلما حققت الغرض والهدف من رسمها .
وللشبابيك في لوحاتي حكاية طريفة سأتكلم عنها بإيجاز ، أنت من المؤكد تعلمين أن أغلب تصاميم بيوت أيام زمان كان لها شبابيك تطل على الحارة هذه الشبابيك كانت تكشف كل من حولنا من الجيران وكان هناك شباك لإحدى الفتيات اللاتي أنا وأصدقائي كنا معجبين بها في ذلك الوقت أيام الدراسة الثانوية لذلك كنا نتقصد المرور من تحت ذلك الشباك حتى نرمقها ونحظى بابتسامة منها وزيدي على ذلك أن الشبابيك ترمز للحرية والأمل أما الخرزة الزرقاء فهي خياري لتخدم مضمون اللوحة من جهة ولتعبر عن أسلوب خاص بي يشبهني من جهة أخرى فهي ترمز إلى الحماية والحفظ من العين و الحسد .
اللوحة تخلد الحياة
يقال أن الفن تعبير صامت عن مشاعرنا وانفعالاتنا مرآة لما نشتهيه من ضعف أو قوة أو نفوذ محاولة مستميتة من الإنسان لمقاومة الزوال أهذا صحيح ؟ وإلى أي مدى يستطيع الفن أن يجسد ملامح الحياة ؟
نعم هذا القول فيه كثير من الصحة فالفن أولاً و آخراً نصاً بصرياً جاهزاً للعرض يخلد جزءاً من الحياة .
إضافة إلى أنه حالات انفعالية شعورية أو لاشعورية تملكت الفنان سواء كانت معاناة أو عبث أو غضب أو قوة أو ضعف أو فرح وهذه الحالات الفنان يؤرخها ويخلدها باللون داخل اللوحة ولكن لا يخلدها بطريقة عفوية بالمطلق فالفن يحتاج لتركيز وخبرة احترافية وإلى امتلاك ثقافة بصرية وثقافة نظرية.
والفن له مقدرة كبيرة على تجسيد ملامح الحياة ففيه تتشعب جميع المعاني والمضامين المدركة المادية والمعنوية فهو يمتلك القدرة على التعبير عن الأحاسيس المختلفة والتناقضات وتصارع وتنافر الأشياء .
لذلك أنا كفنان أفضل أن يقرأ الزبون مغزى اللوحة لا أنا حتى أرى هل جسدت اللوحة ملامح من الحياة؟ وهل تحدثت عن ما يدور بين أضلع الإنسان ووجدانه ؟ وهل استطعت أنا كفنان أن أجسد بعضاً من نبضات وتجارب إنسان ؟ وفي الوقت عينه حتى لا أخفف من قيمة اللوحة البصرية .
الفن التشكيلي يفتقد إلى المرجعيات الفنية
كفنان تشكيلي له بصمته المميزة وأسلوبه الفني المعروف كيف ترى الفن التشكيلي في الوقت الحاضر وما الذي يفتقد إليه الفن التشكيلي ؟
الفن التشكيلي في وقتنا الحاضر لا يبشر بخير بالرغم من نشاط الحركة الثقافية ووجود مواهب إبداعية كثيرة من الشباب هناك تراجع كبير فمن المفترض أن يتطور الفن ولكن للأسف إنه في تراجع نحو الوراء، وذلك يعود باعتقادي إلى غياب المرجعيات الفنية التي هاجرت بسبب الأزمة السورية فهذه المرجعيات وجودها ملح وضروري لتطور الفن التشكيلي.
فالجامعات تفتقد لهم ولخبراتهم لأنهم يمثلون دليل الطالب الذي يرغب باحتراف الفن التشكيلي لصقل موهبته واكتشاف تقنيات جديدة وأسلوب عملي يختص به ويميزه عن الآخرين من أقرانه فالفن إضافة للموهبة بحاجة لممارسة ومتابعة واستشارة ذوي الخبرة .
الورقة الأخيرة
والآن بعد أن قلبنا بضعاً من أوراقك كفنان تشكيلي له أسلوبه الخاص وكنحات ينتمي لنفسه له رؤيته الخاصة حدثني بكلمة أخيرة منك كفنان حين تختلي باللون وتعزف بالفرشاة على أوتار الحياة ما هي القصيدة التي تستحوذ على فكر بشار البرازي ليبدع هذا السيل الجمالي الذي يتدفق من داخل لوحاتك ؟
الحقيقة حين أشرع وأمسك باللون تستحضرني كلمات شعرية من قصيدة كتبت “لأحمد زعتر ” من ديوان “فلسطين “لمحمود درويش / ليدين من حجر وزعتر/ هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشتين / سافرت الغيوم وشردتني /ورمت معاطفها الجبال وخبأتني/ بشكل لاشعوري أجدني أرددها فأقوم بجولات مثيره في رحاب اللون وانطلق به مجسداً بعضاً من رصيد الذكريات والرؤى التي تتزاحم في المخيلة فالشاعر درويش باعتقادي يرسم لوحة من الحياة بالكلمات ويعزف بالأبجدية على قيثارة الشعر متخطياً الزمان والمكان وأنا أجسد الحياة باللون وأعتبره لغة فيها الكثير من الرموز والمصطلحات التي تؤلف بها الذات ذلك الحوار الغامض الذي يحدث التفاهم بين الداخل والخارج والعقل والوجدان والماضي والحاضر .
رقم العدد 15910