الجماهير- بيانكا ماضيّة
ما إن تمّ فتحُ مطارِ حلب ورأيت الطائرةَ البيضاءَ تحطّ على مدْرجه، حتى سرقتني الذاكرةُ إلى ذاك اليومِ الذي انطلقت فيه ووالدي نحو اللاذقية من مطارِ حلب؛ أي تحديداً يوم 27/ 12/ 2012 لقضاء بضعةِ أيام في اللاذقية ومن ثَمَّ العودة إلى حلب.. ذاك اليوم الذي لا أنساه ماحييت؛ لأنني أصبحت فيه خارج مدينتي ولم أستطع بعده العودة إليها إلا بعد سنوات.
في ذلك اليوم انطلقنا بسيارة أجرة نحو المطار، وكان موعد الاتفاق مسبقاً مع السائق في تمام الساعة الحادية عشرة إذ أن موعد إقلاع الطائرة هو الساعة الواحدة ظهراً. تأخر السائق ربع ساعة عن موعده معنا، ومن ثم انطلقنا واتجهنا نحو المطار من جهة الراموسة..
في الطريق راح السائق يشير إلى أن هذا الطريق مقنوص ولابد من الإسراع في القيادة.. في هذه الأثناء راودتني الظنون السيئة، فماذا لو اتجه بنا السائق نحو طريق أخرى؟! ولكن حدسي كان يشير إلى سير الأمور بخير..
ما إن وصلنا إلى بوابة المطار حتى رأينا بعض العمال يكنسون بقايا زجاج محطّم، وما إن ترجّلنا من السيارة حتى بادر أحدهم بالقول: الحمد لله على سلامتكم، فقبل قليل سقطت قذيفة غير بعيدة عن المدخل..
في أثناء انتظارنا للطائرة المدنيّة الآتية من دمشق رأيت بضع عائلات في انتظارها أيضاً، ثم سمعت امرأة أرمنيّة، كانت بقربي، تقول بلهجة عربيّة (مكسّرة): في الأسبوع الماضي عدنا إلى بيوتنا محمّلين في سيارة (سوزوكي) تحت وابل القصف والاشتباكات بعد أن انتظرنا طويلاً ولم تأت الطائرة، اليوم لابد من السفر إلى اللاذقية فابنتي تنتظرني على أحرّ من الجمر..ثم نظرت إليّ وقالت: أمن المعقول ألا نستطيع السفر اليوم أيضاً؟! لم نعرف كيف وصلنا إلى المطار! ابتسمتُ وقلت لها: سنسافر اليوم إن شاء الله، تفاءلي بالخير.
جنود كثيرون رأيتهم في الصالة، وفي هذه الأثناء اهتزّ المطارُ اهتزازاً عنيفاً، وبدأ صوتُ الاشتباك مسموعاً.. لقد سقطت قذيفة أخرى في مكانٍ آخر.. وهبّ الجنود دفعةً واحدة نحو الخارج، وبعد دقائق غير قليلة عادوا …نظر أبي إليّ وأشار إلى أن الأمور ليست بخير…. ومن ثم راح يسأل بعض الجنود عن سبب خروجهم، فأشار أحدهم إلى أنهم يفتحون النار على المسلحين الموجودين في منطقة الشيخ سعيد لإبعادهم عن المطار..
تأخرت الطائرة كثيراً.. واتجهت وأبي نحو مقهى المطار لشرب فنجان من القهوة حتى يحين موعد الوصول من دمشق. لم يهدأ قلق أبي، فسأل جندياً آخر كان جالساً على طاولة قريبة منا عن الأوضاع..فهدأ من روعه وقلقه وأخبره بأن الأمور ستكون على مايرام. بعد قليل جاء جندي آخر فسألنا: هل ترغبان في السفر عبر طائرة عسكريّة، فقد لاتأتي الطائرة المدنيّة اليوم، وقد تضطران إلى المبيت في المطار!! فأجابه أبي: نسافر في الحوامة إن لزم الأمر، فنحن لم نعرف كيف وصلنا إلى المطار! فطلب الجندي من أبي البطاقتين الشخصيتين الخاصتين بنا، وبعد قليل نادانا للانطلاق نحو طائرة الشحن العسكريّة!.
وبسرعة البرق تم اعتلاء الطائرة من قبل المسافرين المدنيين والعسكريين، إذ قد تطال الطائرة قذيفة ما، ولأول مرة في حياتي أرى طائرة شحن عسكرية، وفيها صدمني المشهد: توابيت ملفوفة بعلم الوطن، وبضع نساء متّشحات بالسواد، وبعض جنود جرحى، حقائب تملأ الطائرة، ومن ثم راح صوت بكاء امرأة في الخارج..
جلسنا على المقعد الجانبي..وبعد ثوان جلس بقربي شخصٌ لم يكن وجهه غريباً عني، سألته عمن يكون؟ فقال أنا العميد فلان.. وبعد أن عرّفته بنفسي، قال: كثيراً مازرتكم في مبنى الجريدة، فتذكّرته، وراح يقصّ عليّ قصةَ هذه الطائرة التي نستقلّها الآن، فقال: هذه هي الطلعة الأولى للطائرة بعد إصابتها منذ عشرة أيام وإصابة ضابط بفخذه فيها حين أطلق المسلّحون صواريخهم عليها..ونسأل الله أن تقلع هذه المرة بخير من دون أي أمر سيء!!.. نظرت إليه وكان حدسي يقول بأن الأمور ستكون بخير.. وأقلعت الطائرة…
في الفضاء كنت أنظر إلى التوابيت الملفوفة بعلم الوطن، وأقول في نفسي: (يا الله ياوطن، إلى أين نحن ماضون؟!) (ما الذي يحصل في هذه البلاد؟! أيّ جنونٍ يحفّ ببلادنا؟! في أيِّ مكان في حلب استشهد هؤلاء الأبطال؟!).
وبعد نصف ساعة تقريباً وصلنا مطار حميميم، نزلنا من الطائرة، فيما بقي قلبي معلقاً عند أولئك الشهداء الذين سيستقبلونهم أهاليهم بعد قليل!
كانت تلك الطائرةُ التي أقلّتنا هي طائرةُ الإقلاعِ الأخيرِ التي انطلقت من مطارِ حلب، فبعد يومين أعلن المطارُ توقّفَ رحلاتِه المدنيّةِ والعسكريّةِ بسبب سقوطِ القذائفِ على مدْرجه.. وأعلنّا- بعد تعذّر العودة إلى حلب- عن بقائنا، مضطرين، في اللاذقية حتى تحرير حلب، ثم عدنا إليها بعد سنواتٍ خمسٍ حين تحريرِها الأول من أيدي العصابات الإرهابيّة التكفيرية التي عاثت قتلاً وخراباً وتدميراً.
وانتصرت حلبُ نصرَها الناجز، وفُتح مطارُها في الأمس؛ ليستقبلَ أولَّ طائرةٍ مدنيّةٍ آتيةٍ من دمشقَ، تلك الطائرةُ التي حامت في سماءِ حلب بعد نصرِها، لتهبطَ على مدرجِها حمامةَ سلامٍ اشتاق لهديلِها كثيراً مطارُ حلب.
بوركت سواعدُ الأبطال الذين أعادوا أمنَ هذه المدينة، ورحم الله كلَّ جنديٍّ روى بدمه الطاهر هذه الأرضَ المباركة.. والمجدُ للشهداء ولسوريةَ النصرُ الأكبر.
رقم العدد ١٥٩٥٧