المشهد الثقافي السوري في الحرب وبعدها .. مثقّفون حكمتهم الإيديولوجيا فسقطوا في مستنقع الخيانة .. والأفق مفتوح أمام من يمتلك مشروعاً ثقافياً وطنيّاً
الجماهير- بيانكا ماضيّة
أيُّ دورٍ شهدناهُ، للنُّخبةِ المثقّفةِ في الحربِ، وما دورُها بعدَها؟! وهل كان للمثقفين السوريين دورٌ وطنيٌّ في الحرب؟! أم أن هناك من همّش نفسَه عمداً انتظاراً لانقشاعِ ضبابِ الحرب، وميلِ الكفّةِ إلى الجانبِ الأقوى؟!
هل ارتكز المثقفُ على الواقعِ في تقديمِ رؤيتِه تجاهَ الحربِ أم أنَّ هناك من حكمتْ أفكارَه الطائفيّةُ تارة، والحقدُ والانتقامُ تارة أخرى، فعمل على تجييشِ الرأي العام ضدِّ الدولة والوطن؟! وأيُّ دورٍ كان لكلمةِ المثقّفِ العضويِّ والملتزمِ بقضايا الوطن؟!
لماذا نشهد تخبّطاً وفوضى في المشهدِ الثقافيِّ السوري؟! وهل انسدّ الأفقُ عن إحداثِ أيِّ تحوّلٍ نوعيٍّ في هذا المشهد؟! لماذا يتمّ تعميمُ ظواهرَ سطحية في مشهدِنا الثقافي وهل هناك من يعْمدُ إلى هذا التعميمِ بشكل مقصودٍ، وما الغاية؟!.
هذه الأسئلة تناولها الاستطلاعُ الذي قاربنا من خلالِه آراءَ مثقفين وكتّابٍ ونقّادٍ سوريين، وكان للـ(الجماهير) معهم هذه الوقفة:
– لايمكن أن يستقيم دور المثقف دون أن يستقيم المثقف نفسه
الدكتور سنان حسن، مصمم واستشاري معماري سوري، بروفسور في الجامعة الأمريكية في بيروت، يعيد تعريف مصطلح المثقف، ويتناول أصناف المثقفين الذين أفرزتهم الحرب، مُحيلاً استقامة دور المثقف إلى المثقف نفسه، وفي هذا يقول:
بدايةً لا بد من تفكيك وإعادة تعريف مصطلح أو مفهوم “المثقف” وللإنصاف فأصناف المثقفين عديدة لا تخلو بالطبع من أنصاف وأشباه المثقفين الأدعياء المتثاقفين أو الثقافويين. وباستثناء الصادقين والوطنيين من المثقّفين المتنوّرين الطليعيين (من الفاعلين، أو المتفاعلين، أو المنفعلين)، مِمّن رحم ربّي (وقليلٌ ما هُم، ثُلّةٌ من الأوّلين، وقليلٌ من الآخرين) فلقد أظهرت وأفرزت الحرب الأصناف الآتية:
١- “المثقّف” المتردّد الخائِف، الرمادي والحيادي، السلبي أو اللامبالي، الذي يمارس “التقيّة” الثقافيّة باسم الحكمة والتعقل والانتظار.
٢- “المثقّف” الحالم والواهم، السّاذج أو المغرور لا فرق، الذي تجاوزه الزمن، وذلك المُنفصل عن الواقع الذي يصر على ألا يرى في الواقع سوى تطبيق “شعبويّ” لنظريّاته” وتحقيقا “رغبويّاً” لأحلامه وأوهامه ولو تطلب ذلك ليّ عنق الواقع.
٣- المثقّف” الانتهازي المتلوّن والقابل للبيع والشراء والذي يرى في الحدث فرصة للتكسّب والارتزاق.
٤- “المثقّف” الحاقد والناقم، والذي يرى فرصة في الأحداث لردّ الاعتبار، والتعويض عما تعرّض له مما يعتبره عدم تقدير.
٥- “المثقّف” المتواطئ والمنخرط علنا في المشروع المضاد.
والمشكلة هي وكما اتضح خلال السنوات الماضية في هؤلاء، وبكل الأسى والأسف (وهي تزداد بالتدرّج انحطاطاً، من الأعلى نحو الأسفل) أكبر مِمّا هي في الرّعاع والغوغاء والدهماء وعليه لا يمكن أن يستقيم دور المثقف دون أن يستقيم المثقف بحد ذاته وأن يتم تفكيك الثنائية السلبية الضِديَّة المزعومة (مثقف-رجل سلطة أو عسكري) ولكم أثبتت الأحداث كسر هذه الثنائية القائمة على التنميط السلبي ولكم كان من بين العسكر والمقاتلين من هو أكثر ثقافة وموهبة شعرية ونتاجاً أدبياً من كثيرين ممن احتكروا اللقب…
وبالتأكيد يبقى من المشروع التعويل على المتنورين بحق، والوطنيين بحق، في ريادة وارتياد مشروع رؤيوي بحق في إعادة إعمار إنسان هذه الأرض بحيث يكون جديراً بها وذلك بعيداً عن التعبوية والشعبوية كما عن النخبوية والإقصائية.
– لست متفائلاً
الدكتور نضال الصالح، ناقد، وأستاذ جامعي، يرى أن الواقع الثقافي مأزوم، ويحتاج إلى تغيير شامل، وفي ذلك يقول:
دعيني أختلف أولاً مع تعبير النخبة المثقفة الوارد في السؤال، فليس في المجتمعات العربية، إلى الآن على الأقل، ما يصح قوله عن نخب ثقافية بالمعنى الذي يشير المصطلح إليه في جذره الغربي، أي الأنتلجنسيا، ولذلك، فإن معظم الواقع الثقافي العربي أليقُ بوصفه حالاً ثقافية عربية باستثناءات قليلة يليق بها وصف النخب أمثال عابد الجابري وجورج طرابيشي وعلي حرب و.. وتأسيساً على ذلك وانطلاقاً منه يمكن الحديث عن مثقفين لا عن نخب، كما يصح الحديث عن كتّاب لا عن أدباء. ولذلك كان من البدهي أن يتشرذم هؤلاء جماعات منقسمة على نفسها فيما يعني أكذوبة الربيع العربي أولاً، ومن ثم أكذوبة الثورة التي لم يكن لها أي صلة، أخلاقية بالدرجة الأولى، بقيم الثورة ومبادئها. لقد أسهم هؤلاء الكتّاب، وإن شئت الكتبة على نحو أدق، في حرف بوصلة الثقافة عن مسارها الصحيح، وفي ظهور مستنقع كبير نسبياً من الانتهازيين وركاب الأمواج والشائهين الذين لم يكن لديهم أي وازع في نقل البندقية من كتف إلى كتف.
أما فيما يعني المشهد الثقافي السوري، فأرى أنه أحوج ما يكون الآن إلى فعل ثوري بالمعنى الدقيق، لا الزائف، لكلمة الثورة، لعلّه يستعيد بعضاً من عافيته التي تم هدرها ، وليس أدل على ذلك من أن العديد من صنّاع الشأن الثقافي أنصاف أميين، ولم يقرأ أحدهم كتاباً واحداً في حياته، ولو سألتيه عن محمد الماغوط على سبيل المثال لتلعثم طويلاً في الإجابة.
شخصياً لست متفائلاً ما دام هؤلاء يحكمون مفاصل هذه الثقافة، وفيما أعلم أنّ الأبد لن يطول على لبد كما يقول المثل.
– حان الوقت لمواجهة المشهد الثقافي دون مواربة
الدكتور أحمد الدريس رئيس مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية بالحسكة، يتوقف بداية عند المواقف الفكرية التي أفرزها ماسمّي (الربيع العربي) وعند المفكرين النكرات الذين أظهرتهم القوى الدولية على أنهم نخب ثقافية مهمة، ومن ثم سقوطها إثر إعلان موقفها الفكري المنغلق والطائفي واللاوطني، في مقابل الدور الأقل بروزاً للمثقف الملتزم وطنيّاً ، وفي هذا يقول :
“ليس جديداً القول إن الحراك الذي بدأ في سورية كاستطالة مدروسة لأهداف ماسميّ تزويراً بالربيع العربي قد أفرز أنساقاً من المواقف الفكرية، وشتّت إلى حد ما الوعي السوري عمودياً عبر الانقسام الذي حدث في البنية الفوقيّة، نتيجة الضخ الإعلامي الهائل، وهو ضخٌ أريد له أن يزلزل قناعات الجمهور السوري امتثالاً لمشروع إنهاء ثقافة المقاومة وفرض ثقافة الهزيمة، تحت عنوان ثقافة السلام. وبالعودة إلى تفاصيل المشهد السوري، يمكن القول إن تعويم مصطلح (الثورة) لم يكن مجانيّاً، وإنما كان للإيهام بأن هناك حركة منظمة، لها برنامج، ويديرها منظّرون، ومفكّرون (ثوريّون) تهدف إلى نسف الواقع القائم، وفرض واقع جديد أفضل منه.
ولأن ماسمّي بـ(الثورة ) افتقرت إلى عنصرين أساسيين لازمين للمشروعيّة الثوريّة، هما الفكر الثوري والبرنامج السياسي، فقد عملت قوى دوليّة وإقليمية على تصنيع مفكّرين من النكرات بآليات الإغراء والإغواء، ما أفرز مجاميع من أطفال الفكر والثقافة، الذين تحولوا إلى (كومبارس) يتحرك بإرادة مخرجي المؤامرة، وقد كشف الحراك المفتعل التشوّهات الفكريّة والسياسية والأخلاقية لهذه النكرات التي تمّ تسويقها كنخب فكرية معارضة.
وبعد انتقال الحَراك إلى تجربة الصراع الميداني والعسكرة بتوظيف الإرهاب، سقطت هذه النخب المصنّعة سريعاً، كونها لاتملك ثقافة فاعلة، وليس لديها أي برامج أو رافعة للمصلحة الوطنيّة، وإنما تقوقعت في أقفاص مصلحتها الضيّقة المرتهنة لمصلحة المشغّلين، ما انتهى إلى غياب البرنامج التثويري الافتراضي، وحضور الارتجال والانغلاق الفكري، متمثلاً في الطرح الأيديولوجي والطائفي، بالتوازي مع ارتفاع حدّة النعيق الإعلامي والمروّج لهذه الثقافة الهدّامة التي اشتغلت على تحريك الهويّات المحلية العرقية والطائفية، ما أفقدها بسرعة الرصيد الجماهيري الذي تحلم به، نتيجة تناقض ذلك الطرح مع الوعي الفطري العام، الرافض لكل أشكال هذه الثقافة العابرة للوطنيّة، وبتعبير آخر، فإن من أطلق عليهم تسمية (مثقفي الثورة) قد قدموا مصالحهم ومصالح أسيادهم على مصلحة الشعب، فسقطوا أخلاقياً، نتيجة تنازلهم عن دورهم وتحوّلهم إلى قطيع سياسي تسوقه القوى الفاعلة بعصا مصالحها، ماجعلهم رهينة للتجاذبات وأداة إضافية لتعميق الأزمة وإطالة أمدها”. ولا نبتعد عن الصواب إذا قلنا: إن أغلب من يُسمّون تجاوزاً (مثقفي المعارضة) أو (الثورة) لايمتلكون صفات المثقف، فهم يفتقرون إلى الأدوات الأخلاقية، والعقلانيّة السياسيّة، وفهم الواقع، ويعانون أنواعاً شتّى من العصاب، وتضخّم الأنا الذي أحدثه التلميع الإعلامي المجاني الأجوف.
لقد طرح (مثقفو الثورة) أنفسهم قادة ومرجعيّة فكريّة، وأوصياء على الجماهير، ومارسوا الإرهاب الثقافي، عبر تبني خطاب إقصاء المختلف، والدعوة إلى تدميره، مايعني أن مجمل هذا الخطاب قد تماهى مع الفكر التكفيري الظلامي، بعد أسلمة (هذه الثورة) المزعومة، واعتمادها خطاب العنف والقتل والإبادة والإلغاء المرتكز إلى اجتهادات دعاة الدم والخراب.
وفي الجانب الآخر، كان صوت المثقف الملتزم وطنيّاً أقل بروزاً، بسبب ضآلة عدد المنصّات المساعدة على إبراز هذا الصوت.
أما عن ضرورة إحداث تحوّل نوعي في المشهد الثقافي السوري فيشير د. الدريس إلى أنه بات أمراً ملحاً، ومؤكداً أنه غير مستحيل، وعن هذا المشروع يقول: “هذا المشروع يتطلب إعادة قراءة المشهد برمّته في ظل تصدّع الموقف .
إن الدور الافتراضي للمثقف، يتمثّل في سعيه إلى رصد صورة حياته، ومعاناته، ومشكلاته وعواطفه وآماله وآلامه وتطلعاته، في إطار علاقته العضويّة بمجتمعه، كما يتمثّل في ضرورة جعل الثقافة أداة لفهم نفسه، وفهم العالم من حوله لاستكمال أسباب وجوده المعنوية فيه.
وعليه، فقد حان الوقت لمواجهة المشهد الثقافي دون مواربة، وهذا يستلزم مراجعة نقدية شجاعة لأساليب العمل الثقافي وأدواته، وذهنيّة القائمين عليه”.
وهنا يحضرنا سؤال مهم ألا هو: هل ستشتغل وزارة الثقافة ومؤسسات صنع الوعي على خلق فضاء تشاركي لبناء ثقافة سورية جامعة؟! وعن هذا البناء يقول د. الدريس: ماهو مفقود في هذا السياق هو المشروع الثقافي السياسي الجامع للأطياف المختلفة والمتعارضة أحياناً في مشاريع هذه المؤسسات، وهذا المشروع يتم من خلال خلق تلاقح فكري بين أطياف المثقفين.. بين المثقف – الفقيه الذي يناضل ضد التغريب من أجل الأصالة، والمثقف الخبير الذي يبحث عن سبل التحرر من التخلف، والمثقف الاشتراكي الذي يجابه الاستغلال الداخلي والخارجي من أجل بناء العدالة الاجتماعية، والمثقف الليبرالي الذي يستعير أدوات الآخر الغربي لبناء الديمقراطية والتشاركيّة السياسيّة وهدم الاستبداد، والمثقف المقاوم الذي يعمل على ترسيخ قيم الصمود في مواجهة الاستسلام لأعداء الإنسان العربي!”. ويتابع القول: “وعليه فإن المطلوب من وزارة الثقافة وشركائها الاشتغال على إستراتيجية خلق حوار ديمقراطي من شأنه أن يؤدي إلى صياغة مشروع فكري وطني، يقوم على القاسم المشترك لفضائل الخلاص التي يدعو إليها كل مثقف من وجهة نظره. إن المثقف السوري، يجد نفسه اليوم حائراً بين المهمة الثقافية والمهمة مافوق الثقافية، ذلك أنه لكي يستطيع توظيف الثقافة لخدمة المهمات فوق الثقافية – وهي الأهداف الاجتماعية والشعبية – لا بد أن يستخدم أسلحة ثقافية مواكبة، بدلاً من الأسلحة التقليدية، وأن ينتقل من التنظير إلى الممارسة، أي الربط بين النظرية والموقف، وأن يكون في الطليعة، وليس في النخبة، أي أن يتحلّق مع الجماهير حول النار، كما يفعل الهنود الحمر، ويسأل نفسه: ما الذي ينبغي فعله من الأفكار التي تشقها النار؟؟! إن إمكانية النهوض بالثقافة السورية، واستنطاق الدور المفترض للمثقف السوري متاحان، بشرط توفر قادة ثقافة يستطيعون رسم الخطط والأدوار، وتحديد الأهداف المطلوب بلوغها في ظل التحديات والمتغيرات المتسارعة”.
– ثمة قناعات وأوهام سقطت إلى الأبد
الدكتور نزار بني المرجة، الكاتب والباحث والشاعر يحدثنا أيضاً عن المواقف التي أفرزتها الحرب، في مقابل بقاء المنجز الثقافي السوري بدون فرز من قبل المؤسسات الرسمية، وفي ذلك يقول:
“لعل الأمر الملاحظ على جبهة المواجهة الثقافية مقارنة مع بقية الجبهات في هذه الحرب الطويلة التي نخوض، هو الانشغال بفرز المواقف والعجز أو شبه العجز عن رصد المنجز الأدبي والفكري والثقافي لأنه منجز ليس بالقليل، وشهد بروز عدد غير قليل من الأسماء، هذا المنجز الذي لم ترقَ الحركة النقدية إلى إمكانية وواجب غربلته ووضع أموره في نصابها حتى الآن، وهنا أقول إن المبادرات التي قامت بها بعض المؤسسات الرسمية وحتى المؤسسات الناشئة الرديفة لها، كان محصوراً ومهتماً بجمع ذلك الكم الكبير في هذا المنجز وليس في دراسته وتسليط الضوء على المتميز والحقيقي منه، وبالتالي فإن أي حكم نطلقه عليه سيكون ناقصاً ومتسرعاً ومجانباً للموضوعية في مكان ما، وأعتقد جازماً أن ثمة ما سيتلو الفرز الذي حصل في المواقف، وليس صعباً على المتابع للشأن الثقافي اليوم أن يلاحظ صمت بعض الأسماء التي أخطأت في رؤيتها لحقيقة هذه الحرب (وكان عليها أن لا تخطئ أبداً لأنها الطليعة المفترضة ويجب أن تقوم بدور زرقاء اليمامة كما يقتضي منطق الأمور).. فضلا” عن صمت ملاحظ لأسماء كانت ضالعة وقابضة لثمن مواقفها واصطفافها وانخراطها في خندق أعداء الوطن، ظناً منها أنهم سيكسبون هذه الحرب بالتأكيد، وكانت المفاجأة المذهلة لهم وللعالم بأسره صمود سورية وانتصارها في هذه الحرب المركبة القذرة بأدواتها وغير المسبوقة على مستوى التاريخ والجغرافيا..، ولأن الأمور أصبحت في خواتيمها على جبهات القتال لصالح مؤسسة الوطن العريضة بكل مكوناتها، فأنا أستطيع التأكيد أن ثمة قناعات وأوهاماً سقطت وإلى الأبد، لأنها أصبحت أكثر من مكشوفة ومفضوحة، وبالتالي فنحن لا نبالغ في القول إذا قلنا إن الانتصار السوري اليوم يصنع منظومة فكرية وثقافية عربية جديدة تدفعنا للتفاؤل، وبتنا نلمس حقيقة وجودها من خلال تراجع شريحة واسعة من الكتاب والأدباء والإعلاميين العرب، الذين مروا بمرحلة غسل الأدمغة، عن مواقفهم السلبية السابقة، وحتى لو نظرنا إلى تغير مواقفهم على أنه ركوب موجة جديدة، فهو يعني من زاوية أخرى انكشافاً وهزيمة لمشروع بأكمله أسقطته سورية عملياً وعلى أرض الواقع، وسنلمس نتائجه في الحراك الثقافي العربي بعد فترة أرى أنها لن تطول”.
– اختيار الكوادر الثقافية الفاعلة
محمد سميّة رئيس مركز ثقافي الصاخور في حلب يشير إلى تعطل دور النخب الثقافيّة المتخصّصة لأسباب عديدة، وظهور نخب بديلة غريبة، ويتوقف بداية عند تعريف هذه النخب، بالقول:
“عرفت النخب الثقافية بأنها:”طبقة اجتماعية تشارك في عمل ذهني معقد يهدف إلى توجيه ونقد، أو لعب دور قيادي في تشكيل ثقافة المجتمع وسياسته، وتشمل الأكاديميين، الكتّاب(الأدباء) الصحافيين، الفنانين، المعلمين، وبشكل أوسع المثقفين” إلا أن هذه النخب لم تنهض بالدور المنوط بها خلال سني الحرب باستثناء بعض الأعمال الشعرية والروائية المحدودة، في حين تم خطف البريق الإعلامي من الإعلام الرسمي والوطني عن طريق ما سمي (بالبروباكندا والميديا الإعلامية) لدى الإعلام المحايد والمعادي..ولكن لا بد هنا من الإشارة إلى النخب الثقافية والصحافية المعطاءة التي سخرت جهودها وأقلامها ليل نهار؛ لنقل الحقائق وفضح الأقلام المشبوهة التي روجت للفكر الرجعي الإقصائي المتطرف، ولا ننسى الجهود الثقافية الفردية التي بذلها عدد من الأصوات الوطنية المثقفة والجهود الحثيثة عبر المنابر الثقافية الفردية.
أما النخب الثقافية المتخصّصة فكانت معطلة ثقافياً بشكل شبه كلّي لسببين:
1- لأن قدرة الاستيعاب الجماهيرية محدودة، أو لنقل أصبحت معطلة من أثر الحرب ومنعكساتها الاجتماعية وشدة وقعها على الوضع المعيشي فهي غير مهيأة لأي تغيير في الذهنيات..
2- طغيان ورواج ما سمي “الحتمية التقنيّة” ذلك أن التقنية تسهم في تطوير بنية المجتمع وقيمه الثقافية، وهي أحد الأسباب التي أدت إلى “تهميش” النخب الثقافية، فوسائل التواصل الاجتماعي مثل (“واتس أب”و”تويتر” و”فيسبوك”…) وغيرها أدت إلى ظهور نخب بديلة، آتية من خارج المجتمع الثقافي، وتؤدي الدور المنوط بـ”النخب الثقافية” هذا فضلاً عن الغياب شبه التام للمطالعة (قراءة الكتب) وخروج معظم المكتبات عن الخدمة بسبب ما تعرضت له المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية واقتصار المطالعة لدى معظم جيل الشباب على الصفحات الزرقاء المشوشة فحسب..فلم تعد النظرة الشمولية للنخب المثقفة هي المتحكمة في المشهد الثقافي، فحصل الاختراق التقني الخطير الذي تبعه اختراق فكري عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وذلك بتعويم الأفكار والقيم الدخيلة لمتثقفين تحركهم غالباً المصالح الضيقة، وتؤدي آراؤهم إلى زعزعة الاستقرار، وهدم هوية المجتمع الثقافية .. أضف إلى ذلك التعدد المفرط للمنابر المصدّرة للمعلومات في ضوء تعدد المواقع الإلكترونية والحسابات الشخصية التي تكاد لا تحصر، ناهيك عن اختلاط الحابل بالنابل والبعد عن أدنى درجات الدقة أو الموضوعية في السند والإسناد .
أما عن دور المثقف بعد الحرب فيشير إلى أنه “هو الدور الأهم على الإطلاق الذي يجب أن نعول عليه في إعادة بناء ما تهدم من البنى والقيم الفكرية والثقافية القائمة على التسامح والعيش المشترك واحترام رأي الآخر وتقبل عاداته وتقاليده ومعتقداته إلى جانب ترسيخ عقيدة حب الوطن والتفاني للحفاظ على قدسيته والذود عن مقدساته وعدم التعرض إلى أي من رموزه وثوابته الوطنية….الحقل التربوي هو التربة الخصبة لغرس تلك القيم والمبادئ في أذهان أجيالنا وناشئتنا ولأن “المؤمن لا يلدغ من جحره مرتين” فلا بد من فرق عمل مشتركة وتنسيق فاعل ودائم بين الوزارات الثلاث التربية والثقافة والأوقاف لإعادة بناء الفكر السليم ومحاربة ما خلفه الإرهاب في أذهان وعقول أبنائنا”.
وعن انسداد الأفق أمام المشهد الثقافي السوري يقول: أنا لا أرى انسداداً للأفق الثقافي السوري والوطن الذي يمتلك أقدم أبجدية على وجه الأرض (الأوغاريتية) ليس بوطن عقيم….الانسداد- برأيي- يكمن في الأفق الفكري لدى معظم المعنيين بفتح هذا الأفق على أشده وعبر قنوات وأساليب جديدة تتناسب مع متطلبات الواقع الراهن”.
ويتابع: “نحن بأمس الحاجة لإعادة النظر وإعادة التقييم والتقويم والتفكير والتفكر مطولاً قبل اختيار الكوادر الفاعلة في مختلف الجهات والمواقع المؤسسات والجمعيات والهيئات ذات الصلة. فثقافة المجتمع هي مرآة حضارته الأولى كي نبني وطناً عزيزاً كريماً شامخاً ومجتمعاً مثقفاً متحضرا متحصنا عصيا على الاختراق من جديد” .
رقم العدد ١٥٨٦٢