“كورونا” يفتح أبواب الصراع الدولي على مصراعيها..فهل الواقع الدولي سيغيّر في الخريطة السياسيّة العالمية؟! المشاركون: أزمة “كورونا” ستخلف وراءها مناطق ستخرج من تحت العباءة الأمريكية والأوروبيّة!

 

الجماهير- بيانكا ماضيّة

في خضم ما يحصل على الساحة الدولية من أزمات وحالة من عدم الاستقرار على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، ومؤخراً الصحية، يبدو أننا، وأكثر من أي وقت مضى، بحاجة لإعادة قراءة ما يحصل بعقل منفتح، وبمنهجية علمية لا تستند وحسب إلى النظريات السياسية والاقتصادية الوضعية، بل ربما يجب توسيع دائرة القراءة؛ لمحاولة فهم ما حدث ويحدث، وتفسير السلوك السياسي لشخصيات المجتمع الدولي ومستقبل العلاقات الدولية.
سقطت شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي كان يتغنى بها الغرب، ولعل جائحة “كورونا” قد أظهرت أن الواقع الدولي مقبلٌ على صراع كبير يتضمن صيغاً جديدة للعلاقات الدولية، وعلى تحديد خريطة سياسية عالمية جديدة تعيد توزيع موازين القوى، فهل سيفقد الغرب سيطرته على العالم في مقابل سيطرة الشرق؟!
هل ستنهار التكتلات السياسية لصالح الدولة الوطنية؟!، وهل سيكون هناك تحالفات سياسية وعسكرية تجمع دولاً وتفرّق أخرى، هل سيتم هذا التغيير بشكل متسارع أم يحتاج إلى وقت؟!
(الجماهير) التقت مع مجموعة من الباحثين والمحللين السياسيين، ومن أساتذة الجامعات، وكانت هذه الآراء:

نموذج العولمة لم يعد صالحاً


يؤكد يحيى زيدو، باحث ومختص في الفلسفة، أن الواقع الدولي يشير إلى خلق نظام دولي جديد على أسس أكثر مقبوليّة من النظام العالمي الحالي، وأن نموذج العولمة سيتم تعديله لصالح الدول الوطنية، ويبدأ بالقول: لقد أظهر الانتشار العالمي لوباء “كورونا” أن التكتلات السياسية الكبرى في العالم ليست متماسكة كما تبدو في الصورة المراد تعميمها عنها، وأنها ليست سوى تلفيق سياسي ينهار لصالح الدولة الوطنية أو القومية عند أول اختبار جدي. ولعل تجربة الاتحاد الأوروبي تشكل نموذجاً يمكن مقاربته في هذا السياق، فقد تركت دول الاتحاد الأوروبي دولة عريقة ومؤسسة للاتحاد مثل إيطاليا، تواجه مصيرها منفردة في مواجهة وباء”كورونا” من دون تقديم أية مساعدة لها، والأمر نفسه حصل مع صربيا التي استبدلت علم الاتحاد الأوروبي بعلم جمهورية الصين الشعبية احتجاجاً على موقف الاتحاد السلبي من طلبها مساعدات طبية لمواجهة الوباء. وهذان المثالان قد يكونان مؤشرين دالّين على ما يمكن أن يطال الاتحاد الأوروبي من احتمالات تفكك أو انقسام وانسحاب بعض الدول منه.
وفي الوقت نفسه فإن علاقة الاتحاد الأوروبي بالولايات المتحدة وبحلف شمال الأطلسي ستتأثر سلباً، وربما لن تكون الولايات المتحدة قادرة على السيطرة على دول الاتحاد الأوروبي بالطريقة التي تسيطر بها الآن، وهذا الأمر سوف يسهم في خلق تحالفات سياسية وعسكرية تجمع دولاً كانت على خلاف منذ الحرب العالمية الثانية، وتفرق دولاً متحالفة منذ ذلك التاريخ.
ويتابع: هذه الانقسامات والتحالفات المتوقعة بعد مرحلة الانتهاء من مواجهة الوباء ستغير شكل علاقة دول العالم مع الغرب الذي سيفقد سيطرته على العالم، في مقابل تكريس سلطة الشرق (الصين- روسيا- اليابان) وغيرها من الدول بعد الأداء الخلاق للصين التي وقفت كحارس طبي للعالم، وقدمت النموذج الإنساني الراقي لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الدول بصرف النظر عن الخلافات السياسية والاقتصادية، والأمر نفسه قد ينطبق على روسيا وإن بدرجة أقل بسبب التنافس الروسي الغربي في أكثر من بقعة جغرافية في العالم.
إن تراجع دور التكتلات السياسية الكبرى يعني أن نموذج “العولمة – Globalisation” لم يعد صالحاً بصيغته المفرطة الحالية، وسيناله الكثير من محاولات التعديل لصالح الدول الوطنية التي ستتكرس فيها سلطات حيوية – بتعبير ميشيل فوكو- تستطيع من خلالها التحكم بحركات البشر، والسيطرة عليهم بعد عقود من دعوات الديمقراطية والحريات الفردية وحقوق الإنسان التي كانت عدة شغل النظام العولمي للسيطرة على الدول والمجتمعات، من دون إغفال فكرة أن بعض الحكومات قد وجدت في الإجراءات التي اتخذتها لمواجهة وباء” كورونا” مناسبة لتشديد قبضتها وسلطتها على مجتمعاتها، ومن الصعب تصور أنها ستتخلى عن هذه السلطات دون أن تُدفع إلى ذلك دفعاً بضغوط مجتمعية تبدو مؤجلة في هذه المرحلة.
سيظهر في قادم الأيام، ما يغيّر وجه العالم، ويدفع بالقوى الكبرى إلى إقامة شراكات فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين باقي دول العالم من جهة ثانية، من أجل إيجاد نظام دولي جديد على أسس أكثر مقبوليّة من النظام العالمي الحالي الذي يتفسخ أكثر كلما اشتدت أزمة وباء ”كورونا”.

“كورونا” طرحت إشكالية جديّة حول الفلسفات الغربية


يرى الدكتور محمد مرتضى، أكاديمي وباحث لبناني في استراتيجيات التأثير، أن هذه التغيرات تحتاج إلى وقت، ولكنها تنبئ عن تراجع القيادة الأمريكية للعالم على حساب زيادة النفوذ الصيني، إضافة إلى حصول تحولات أخرى تتعلق بالبعد الفكري والفلسفي والأيديولوجي، ويقول: من المهم بداية أن نشير إلى أن التحولات البشرية الكبرى لا تحصل عن طريق الطفرة. ونقصد بالطفرة التحول والانتقال السريع من حالة إلى حالة. فالتحولات المتعلقة بشؤون البشر تحتاج إلى وقت، ولذا هي تحصل في امتداد الزمان، ولا تتحقق بشكل طفروي.
بناء على هذه المقدمة، فلا شك أن عالم ما بعد كورونا سيكون غير ما قبله. فضحايا هذا الفيروس هي التشكلات الاقتصادية والإيديولوجية، وبالتالي السياسية التي كانت سائدة، قبل أن تكون، هذه الضحايا، هي الأفراد الإنسانية نفسها. لكن ينبغي ألا يأخذنا الحماس ونظن أن التغيرات ستحدث بسرعة، بل هي تحتاج إلى وقت. ومهما يكن من أمر، فقد كشف كورونا هشاشة بعض التكتلات والتي ظهرت أنها اقتصادية أكثر منها حضارية، على خلاف ما كانت تحاول إظهار نفسها، كالاتحاد الأوروبي. كما أن الركود الذي سيصيب الاقتصاد الأمريكي، سيعزز من تراجع القيادة الأمريكية للعالم على حساب زيادة النفوذ الصيني. صحيح أن الاقتصاد الصيني سيتضرر بدوره، إلا أن الصين، ولأسباب حضارية من جهة، وأخلاقية من جهة أخرى (نظراً لأدائها العالمي مع أزمة كورونا) قادرة على النهوض بسرعة. لكن أكرر إن هذه التحولات ستحتاج إلى وقت؛ لأن النظام الاقتصادي العالمي بُني على أسس تحمي المصالح الأمريكية خاصة لناحية محورية الدولار الأمريكي في المنظومة الاقتصادية والمالية العالمية.
وعلى أية حال، إن أزمة كورونا ستخلف وراءها مناطق ستخرج من تحت العباءة الأمريكية والأوروبية، ولما كان النظام الكوني قائماً على أنه لا وجود لمناطق فراغ، وأنّ كل انسحاب لقوة من منطقة سيؤدي إلى دخول قوة أخرى تملأ مكانها، فإن الصين هي أكثر دولة مهيأة للعب هذا الدور، وملء هذا الفراغ.
هذا من الناحية الاقتصادية والذي سينعكس حتماً على السياسة، إلا أن ثمة تحولات أخرى ستحصل وتتعلق بالبعد الفكري والفلسفي والأيديولوجي. ما أعتقده أنّ أزمة كورونا طرحت إشكالية جدية حول الفلسفات الغربية المتعلقة بالحداثة والعولمة والليبرالية والنيوليبرالية والديمقراطية والخصخصة وما إلى ذلك من أطروحات. لقد أظهرت أزمة الوباء العالمي عقم هذه الأطروحات، وأظهرت الفردانية المفرطة في المنظومة الغربية. من هنا، فأنا لا أستبعد، بل أرجّح، عودة الميتافيزيقا بقوة، وإعادة النظر في مكانة الإنسان في هذا العالم على حساب التقانة والاقتصاد، وإعادة ربط الميتافيزيقا بالإنسان، ذلك الإنسان الذي “مات” في الفكر الغربي على حساب التقنية.

بداية أفول الاتحاد الأوروبي وتضعضع أركانه


لاتتوقع الدكتورة إنصاف الحمد، أستاذة في كلية الآداب، قسم الفلسفة بجامعة دمشق، وعضو الهيئة العلمية في مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد) أي تغيير قريب في الخرائط ولا توزيع جديد في موازين القوى، إذ تقول: من متابعتي أستطيع القول إن الصراع بدأ منذ مدة لابأس بها، وهو صراع ، كما كانت كل الصراعات السابقة، اقتصادي في جوهره وأساسه، إنه صراع على الهيمنة على الموارد وامتلاكها وتشغيلها بأعلى تقنية، وصراع على طرق انسياب السلع والمنتجات بما فيه أنابيب الطاقة، وهو صراع يدور بشكل رئيس بين الصين وإلى حد ما روسيا من جهة وبين الولايات المتحدة وإلى حد ما أوروبا من جهة أخرى.. وهو يتجلى غالباً على شكل حرب ناعمة (اقتصاد وعقوبات وحرب تقنية وبيولوجية ربما كما نرى الآن) أو حروب بالوكالة (على أراضي دول أخرى أو بإثارة اضطرابات في البلد نفسه) لكنه لم ينزلق حتى الآن إلى حرب مباشرة ولا أعتقد أنه سينزلق إليها لعدم مقدرة كل الأطراف تحمل النتائج ..وربما عدم رغبتها بذلك .
ولأن هذا العالم محكوم بقدر كبير من عدم اليقين يجعل التنبؤ بالمسارات المستقبلية ضرباً من العرافة، إلا أنني لا أتوقع تغييراً قريباً في الخرائط ولا توزيعاً جديداً بالمعنى النوعي في موازين القوى، (لنتذكر الآمال التي عقدت على دول البريكس والتي تلاشت إلى حد كبير الآن) باعتقادي ستظل الولايات المتحدة القوة العظمى ضمن المدى المنظور (رغم تآكل قوتها نسبياً) وذلك بحكم سيطرة الدولار على مجريات الاقتصاد العالمي .. وهي إن كانت قدرتها على تنفيذ ماتريد قد حدَّ منها حضور الصين وروسيا بقوة، إلا أنها مازالت تستطيع أن تعرقل ما لاتريده .ربما ما أستطيع تخمينه هو بداية أفول الاتحاد الأوروبي وتضعضع أركانه بعد حدث كورونا العالمي.

أحد الحلول المتاحة لأوروبا هو “التوجه شرقاً”


أنطوان شاربنتييه،كاتب وباحث سياسي لبناني متخصص بشؤون الشرق الأوسط وأوروبا ، يؤكد انتقال مراكز الثقل من الغرب إلى الشرق، وتغيير الأداء السياسي وتصرفات الشعوب، إذ قال: في الوقت الحالي لا نستطيع تقييم كيف سيكون تحديداً مستقبل فرنسا وأوروبا بشكل عام بعد انتهاء أزمة الكورونا. التركيز اليوم يقتصر على محاربة فيروس الكورونا والحد من انتشاره. سيكون هناك أزمة سياسية في فرنسا. هذه الأزمة كانت موجودة قبل فيروس كورونا، ولكنها ستتفاقم أكثر ما بين الطبقة الحاكمة والمعارضين لها, إن كانوا من اليمين، أو اليمين المتطرف، أو من اليسار المتطرف. سيكون هناك جدل كبير وسيتغير الأداء السياسي في فرنسا كما في أوروبا ككل. الأزمة السياسية ستكون عميقة جداً، قد تكون بنفس حدة وصعوبة أزمة الكورونا الحالية. واقتصادياً، إن الأزمة السياسية والاقتصادية ستكون أصعب من أزمة كورونا أو بنفس الصعوبة، أزمة كورونا أوقفت كل العمليات التجارية وكان الاقتصاد الأوروبي ضعيفاً بعض الشيء، إذ وضعت الاقتصاد في حالة ركود عميقة جدا وثقيلة وقد لا تتحملها دول الاتحاد بهذا الشكل. وعسكرياً، فهو يتبع السياق السياسي والاقتصادي إذا كان الاقتصاد ضعيفاً سيكون السياق العسكري ضعيفاً بعض الشيء. إن “مبدأ التضامن”، الذي يعد أحد أسس الاتحاد الأوروبي، لم يعد له أي نفع عملياً ،وهو ما قد يؤثر على مستقبل الاتحاد، ويضعه على سكة التفكك خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، إلى جانب أزمة الكورونا، الأزمات الأخرى ومنها صعود اليمين المتطرف والنزعة الشعبوية، وأزمة اللاجئين، وانحدار المحور الغربي الذي ينتمي إليه الاتحاد الأوروبي بسبب سياسات الولايات المتحدة في العالم، وإعلان الحرب من قبل الأخيرة بشتى الوسائل على أوروبا منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة.
ليس هناك أي خيار آخر لبلدان الاتحاد الأوروبي إلا طلب المعونة من ذوي الاختصاص والخبرة لمواجهة هذا الوباء، أي الصين. ففي ظل تقاعس واشنطن، “قائد المحور الغربي” والتي تعتبر دولة عظمى، أظهرت بكين مسؤولية إنسانية وسياسية متزنة على مستوى عالٍ جداً ما ينقض “شيطنة” الإعلام الغربي لها منذ بدء ظهور أزمة الكورونا.
ويتابع بالقول: قد تساهم مبادرة إيطاليا وإسبانيا وصربيا بطلب المساعدة والمعونة من الصين بكسر الهيمنة الأمريكية على أوروبا وبشكل جدي، ما سيؤدي في المستقبل إلى إعادة التفكير في مبدأ هذه الرأسمالية ومبدأي الحرية والعولمة. فوباء كورونا، سيغير وجه الغرب وأوروبا ومعها وجه العالم، وهو ما أكده تصريح للرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، إذ أشار إلى أن الوهم الأوروبي “تبخّر” ما يدعونا للتساؤل عن حاجة المواطن الأوروبي لهذا الاتحاد بالشكل الذي هو عليه الآن. من هنا، إن أحد الحلول المتاحة لأوروبا هو “التوجه شرقاً”، ولهذا، يجب عليها كسر القيود الأمريكية وهيمنتها عليها، وخصوصاً أن واشنطن لم تساعدها يوماً، لا سيما وأن هناك محاولات “خجولة” من بعض القادة الأوروبيين نحو الصين، لكن هذا الاتجاه محصور في المجالين الاقتصادي والمالي. وأخيراً ستؤدي أزمة الكورونا إلى انتقال مراكز الثقل من الغرب إلى الشرق وسيغير الأداء السياسي وتصرفات الشعوب، وقد يبدؤون بالتفكير بالاكتفاء الذاتي ما سيغير التعامل التجاري، ويغير مبدأ الانفتاح والحرية.

خارطة الصراع ونبوءات البقاء


سعيد الخاص، دبلوم شؤون دولية ودبلوماسية، يشير إلى أن المشهد الدولي في المرحلة الراهنة والقادمة لن يكون قائماً على التعاون، بل على التقاتل، إذ يقول: اليوم تبين بجلاء هشاشة النظام العالمي ومنظومة العلاقات الدولية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية، وتبين أيضاً قصور وانحسار دور الأمم المتحدة وأجهزتها بعد الكثير من الاستحقاقات التي لم تستطع المنظمة العالمية أن تكون بحجم الدور المنوط إليها في حل النزاعات والأزمات العالمية كما يجب .
فالصراعات ما زالت مستمرة ومتصاعدة وبمنحى يكاد يكون شاقولياً لتصير ذروته انفجاراً عالمياً اقتصادياً وعسكريا،ً وربما يكون أخذ في هذه المرحلة شكلاً صحياً .
فبعد الصراع الذي كان السمة الأساسية للنصف الثاني من القرن الماضي بين القوتين العظميين بوجهه الإيديولوجي بشكل أساسي، وتقسيم العالم بين معسكرين لا ثالث لهما والذي أفضى لنصر المعسكر الغربي وانهيار الاتحاد السوفييتي الركن الأساس للمعسكر الشرقي، أصبح العالم بأسره رهينةً للمحور المنتصر يتحكم بمقدرات العالم بأسره دون الالتفات للشرعية الدولية والقانون الدولي، وضرب بعرض الحائط إرادات الدول والشعوب، وعوضاً عن أن يقوم بدور إيجابي لحفظ الأمن والسلم الدوليين وتعزيز التعاون الدولي بموجب النظرية الليبرالية التي كانت بمثابة حصان طروادة بالنسبة له، وخدمة لمصالحه، عمل بشكل مباشر وغير مباشر على تسخير قوته للسيطرة على مقدرات الشعوب وفرض إرادته بالقوة والمال على العالم بأسره وإشعال فتيل الحروب والأزمات على امتداد المعمورة ، لتصبح الكرة الأرضية كرة نار مشتعلة، وبدلاً من أن يكون الصراع مركزياً كما كان في المرحلة السابقة أخذ يتحول لصراعات متفرقةٍ مستقلةٍ في كل بقعة على حدة .
ومع بداية القرن الحالي أخذت بعض الدول بالنهوض ومحاولة لعب دورٍ يناسب حجومها وإمكانيتها، وإنتاج صيغ جديدة للعلاقات الدولية، لتقابل هذه المحاولات بممانعة ومقاومة من القطب الواحد المسيطر على المجتمع الدولي، وعاد الصراع ليأخذ أشكالا مألوفة ومستحدثة وظهر لاعبين جدد على الساحة الدولية وأصبح الصراع مفتوحا وعالميا من جديد، ويتأثر به كل العالم، دولاً وأفراد

اً، ولكن هذا الصراع لن يأخذ فترة طويلة كما سابقاته، بل سيكون متصاعدا وسريعا كما سمة هذا العصر، ولكنه وكما سابقاته، سيعتمد على الأسس نفسها لحسم نتيجته وهي القوة، فالحق لا يكون حقاً في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة .
وعليه فإن المشهد الدولي في المرحلة الراهنة والقادمة لن يكون قائماً على التعاون، بل على التقاتل، لحين تشكيل خارطة سياسية عالمية جديدة تعيد توزيع موازين القوى على مستوى العالم.

العالم لن يعود كما هو بعد كورونا


الدكتور نواف إبراهيم، كاتب سياسي وإعلامي سوري، يؤكد أن الوضع العالمي سيتغير وسينقلب رأساً على عقب مابعد مرحلة كورونا، إذ يعدّها مرحلة تاريخية مفصلية قد تغير الكون وتوازناته بجميع أشكالها الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية ويقول: لن يستطيع أحد أن يوقف عجلة التغيرات والتبدلات الإجبارية التي سوف يلتزم بها العالم، شاء أم أبى، إلا إذا تم الاتفاق الدولي، بغض النظر عن الخلافات وصراع المصالح، على صيغة بينيّة تضمن استمرار جميع الدول والتكتلات والأحلاف الدولية بقديمها وجديدها، هذا بالإضافة إلى الأحلاف والتكتلات الصاعدة. ولعل الجميع يحول هذه الكارثة التاريخية إلى فرصة للانتقال إلى عالم أكثر تضامناً وأكثر فهماً للواقع المستجد، وتحويل هذه المتغيرات إلى فرص من شأنها أن تقي البشرية الاختلالات في التوازنات البيئية ومايرتبط بها من تغيرات في أسس النظم الحياتية التي كان يعيش عليها الإنسان في المراحل السابقة .
ويردف بالقول: إن وباء كورونا أظهر ضعف المنظومة العالمية وضعف الإستراتيجيات المشتركة ومؤسسات البحث العلمي والاستشعار عن بعد درءاً لأي خطر قد يهدد البشرية، وظهر هذا في الواقع الصحي الهشّ والاختلال في التعاون الدولي المشترك لمواجهة أي نائبة تصيب البشر، صحية كانت أم غيرها من الأخطار، فالولايات المتحدة الأمريكية والغرب فشلوا فشلاً ذريعاً في إدارة العالم، وفشلوا فشلاً ذريعاً في تنفيذ مخططاتهم للنقلة المئوية التالية، ووضعوا أنفسهم أمام امتحان صعب جداً، كانت نتيجته شبه انهيار أو سقوط أكثر من جزئي للمنظومة السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية العالمية التي كانوا يدورون في فلكها خلال المئة عام التي مضت، وفشلوا في تنفيذ خطة الإنقاذ والانتقال للمئة عام التالية، والدول الصاعدة في المستقبل هي دول منطقة آسيا وخاصة الشرقية منها، الصين، روسيا ومعهما بعض التكتلات الدولية الجديدة وإيران التي ستكون مع الصيني والروسي في حلقة الدوران الجديدة. وأغلب الظن أن هذه المتغيرات المتسارعة والخروج عن قيم ومبادئ الصراعات الدولية ستضع المجتمع الدولي أمام خيارات قاسية وصعبة، وقد نشهد تحولات جديدة تشبه إلى حد كبير تحولات مابعد الحرب العالمية الثانية من ظهور أحلاف وتكتلات ومنظمات دولية جديدة وانهيار أخرى، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمنظمات التابعة لها قد نراها بشكل مغاير تماماً، ولكن بكل تأكيد لن تبقى تحت السطوة والسيطرة الكاملة لأمريكا ودول الغرب. الولايات ستخسر الكثير من قيمتها وإمكاناتها ومقامها، ولن تبقى الدولة العظمى رغم أنها قد تحافظ على بعض قوتها والمستقبل للصين وروسيا، ومنطقة النزاع القادمة هي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي كانت مركز الطرد المركزي للمشاريع الاقتصادية المتفق عليها بين روسيا والصين ومن معهما من دول المحيط والاتصال الجغرافي والجيوسياسي ومنها طريق الحرير ..حزام واحد طريق واحد، لتحييد أمريكا وأوروبا بشكل يشلّهم شللاً جزئياً يمنعهم من التحكم بالسياسة الاقتصادية والتجارية العالمية لا تدميرهم بشكل كامل، وهذا مايفرّق بين حلف الولايات المتحدة ودول الغرب عن روسيا والصين والتكتلات الدولية التي تسبح في بحرهما نحو المستقبل.
دول المنطقة العربية ستبقى على حالها، ومنها من هو في صراع بيني دائم، ومنها من هو مرهون، ومنها من ستنهار أسس بقائه خلال سنتين أو ثلاثة، دول النفط تحديداً، إلا إذا عادت دول المنطقة إلى التفكير الدقيق بما قد تؤول إليه في المستقبل في حال استمرارها بالركون والاستناد على الولايات المتحدة ودول أوروبا. سيكون هذا صعباً على أوروبا التي سوف تتفكك حتى لو بشكل ظاهر، وأكبر دليل على ذلك أنه لم تستطع دول أوروبا أن تتفق على إنقاذ نفسها من خطر الفناء في مواجهة كورونا خلال اجتماعها الأخير عبر جسر اتصال إلكتروني. أوروبا لن تعود أوروبا، ستكون في حالة الاحتياج الطويل؛ لترميم آثار التأثيرات التي ستنجم عن مرحلة كورونا.
متابعاً قوله: هذا كله طبعاً إن ثبتت فرضيات مايحدث لتغيير العالم وخاصة في ظل الحديث عن دور خفي لمنظمات خفية، أرادت أن تعيد صياغة العالم من جديد؛ لتغيير أسس وطرائق التحكم فيه، بغض النظر عن التركيز على مستقبل الدول التي كانت ومازالت حتى اللحظة تعد المركز الأساسي لتوجيه هذا التحكم من خلال إدارتها الخفية للأمم المتحدة والمنظمات الملحة والبنوك الدولية وخطوط التجارة العالمية والحروب وإلى ما هنالك!. ف

هل سنرى هذا العالم يستفيق ويفك كل القيود التي كبل بها تحت أنظمة وقوانين كانت لخدمة جهة أو فئة لم يقدر أحد حتى اللحظة أن يثبت من هي! وأين مركز ثقلها الحقيقي! ومن يديرها! وخاصة بما أنها لم تعد ترى أمامها إلا أهمية تحقيق مرادها ضاربة بالأرض كل من يقف أمامها حتى لو كان جزءاً منها!. هل يعترف أو يتنبه العالم إلى مدى خطورة الاستسلام للغموض الذي يحرك العالم نحو المجهول أم أنه سيختار التكاتف والتعاضد للمواجهة ؟!…ولكن بالفعل مواجهة من؟! …هذا ما تكشفه الأيام أو السنوات القليلة القادمة بعد أن ينقلب العالم ويسير في فلك التحولات القسرية، والتي يجب عليه أن يوجهها نحو كل مايخدم البشرية جمعاء نحو التنمية المستدامة بدلاً من هذا الهدر الذي قد يحرم الأجيال القادمة من كل شيء، فتعود لتأكل بعضها بحثاً عن البقاء.

ما قبل كورونا يشبه تماماً ما بعدها


الدكتور علي مخلوف وهو صاحب مشروع وطني، واليوم يقوم بمتابعة مشروعه “سلسلة تاريخ العلم” يرى أن ما حاولت فرضه الولايات المتحدة الأمريكية، من نموذج للثقافة والديموقراطية هو وهمٌ، وأننا أمام مفصل تاريخي جديد وتحولات دولية جديدة، ولكنه يؤكد أن مابعد كورونا يشبه ماقبله من حيث صراع النفوذ، ويقول: أعتقد أننا نعيش فصول ذلك الصراع، وعلى مستويات وأشكال مختلفة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945م التي أسست لنظام دولي جديد سقطت فيه إمبراطوريات ونشأت إمبراطوريات جديدة، فسقطت الإمبراطورية الفرنسية والبريطانية والألمانية؛ لندخل مرحلة الصراع والتجاذب الدولي بين الغرب والشرق فيما سمي بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة، والاتحاد السوفييتي وحلفائه من جهة ثانية.لتنتهي هذه الحقبة من الصراع وتقاسم النفوذ بعد أقل من 45 سنة مع سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي والدخول بما عرف بالقطبية الأحادية الأمريكية وليخرج علينا الأمريكيون يعلنون انتصارهم بتسويق فكرة (نهاية التاريخ) التي نظّرَ لها وطرحها (فوكوياما) تلك الأطروحة التي تتحدث عن نهاية عصر الإيديولوجيات وانتصار المنظومة الفكرية والليبرالية الغربية، وانتصار نموذج الثقافة الأمريكية وديمقراطيته، ويعدّون انتصارهم انتصاراً ناجزاً ونهائياً..وبالتالي جاءت فكرة نهاية التاريخ.
أيضاً لم يطل الوقت كثيراً حتى نكتشف أن ما سوّقت له وحاولت فرضه الولايات المتحدة الأمريكية هو أيضاً وهمٌ وغير حقيقي، وأنه ليس مطلقاً، وأنه ذو صلاحية محدودة. إننا أمام مفصل تاريخي جديد وتحولات دولية جديدة نعيش إرهاصاتها اليوم. ربما نشاهد انتقالاً لمراكز قوى.. وقوة أو ضعف مراكز أخرى، وغياب مراكز، ونشوء أخرى..اليوم ومع تصاعد المنافسة الصينية الأمريكية تلك المنافسة التي وصلت إلى حدود الصدام والذي يأخذ شكلاً اقتصادياً في المقام الأول ..
ويتابع: تتطور الأحداث لنصل إلى فيروس كورونا وما يفعله في العالم بطريقة لا يمكن لعقل بشري كان أن يتخيلها، وكأنه جاء ليضع توقيعه على الفصل الأخير أو ربما الفصل ما قبل الأخير من هذا الصراع والوصول إلى الشكل الجديد من النظام الدولي القادم والذي سيكون فيه للصين وحلفائها الكلمة الأولى على ما أعتقد، ويستمر الصراع من جديد…
نعم.. ما قبل كورونا يشبه تماماً ما بعدها، فقط ستختلف الأسماء والأشخاص ومراكز القوى، إنها صراع النفوذ في السياسة والاقتصاد على مرّ التاريخ.
رقم العدد ١٥٩٩٤

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار