الجماهير / بقلم جوزيف شمّاس
(1)
التقيا صدفةً في مكتبة لبيع الكتب .. تصافحا .. تعانقا.. بادره علاء:
-ما هي أخباركَ يا يوسف ؟
-بخير والحمدُ لله .
-منذ فترة ؛ وأنا أحاولُ الاتصال بك ولم أفلح !
-كما تعرف. أنا أحبُّ السفرَ والترحال .
-وما هذه الكآبة الموشومةُ على محيّاك إذاً ؟
-دعني صامتاً. ولا تؤجّجَ الحزنَ المدفونَ فيّ ؛ كي لا يعلو صوتهُ ويفضحَ فشلي .
-خيرٌ إن شاء الله .. ما الأمر؟
-المكانُ هنا غير مناسبٍ. فدَعْ الأمرَ لوقتٍ آخرَ.
-ما رأيكَ بأن نرتشفَ القهوةَ معاً في مكانٍ قريبٍ من هنا ؟
دقائق .. اهتديا إلى ركنٍ هادئٍ .. بعيداً عن حركةِ روّاد المقهى .. جلسا قربَ نافورةَِ ماءٍ .. كلٌّ منهما يفكِّرُ من أينَ يبدأ الحديثَ .. تمضي لحظاتٌ.. صمتٌ مطبقٌ .. يقتربُ النادل منهما.. سجِل ما طلبا منه ..وغاب عن أنظارهِما …
بادر علاء سائلاً :
-إلى أين سافرتَ مؤخّراً؟ هل إلى مصرَ ثانيةً.
-رغم أنّني أعشقُ النيلَ وجبروتَه . وأحبُّ أهلَ مصرَ الظرفاءَ؛ وروحَ الفكاهةِ لديهم. إلاّ أنّني سافرتُ إلى المغربِ.
-وكيف وجَدْتَها ؟
-المغربٌ . هي قصيدةٌ كتبتْ بخيوطٍ من أشعّةِ الشّمسِِ . فالدار البيضاء؛ هي كالفتاة المدلّلةٌ. تعشقُها في كلِّ الأزمنةِ. أمّا مراكشَ؛ فهي كالمرأةِ التي تزورك لحظةَ الغسقِ. وتحتلُ ذاكرتكَ ولا تغادرها.
-هل سافرتما معا؛ أنت وشهد ؟
-للأسف؛ أنا وشهد مفترقان منذ فترةٍ. لذا كنتُ وحيداً ضائعاً في صحراء من التيه .. أبحث عن السعادةِ .
-هل وجدتها ؟
-لم أجدها سوى وهم نحلم به. نسمع عنها ولا نتحسّسها أو نشعر بها. فهي كقوسُ قزحٍ معلَّقٍ في السماءِ. نستمتع برؤيته دون أنْ نلمسه أو نحصل عليه.
-يا صاحبي. السعادة؛ حقيقة موجودةٌ في داخلنا. لو فكّرنا برؤيّة وحكمةٍ لوجدناها…والآن قُلْ لي هل طلّقت شهد؟
-لم أجرؤ على ذلك .. حتى هي؛ غادرت إلى بيت أهلها دون أن تطلبَ الطلاق .. وأنا الآن أعيش في حالةٍ موحشةٍ قابضةٍ لا أمل لوجود السعادة فيها ولا السكينة …
تمضي ساعتان .. يتحادثان بودّ وصراحةٍ .. يفترقان على أمل اللقاء مجدّداً بعد أن دعاه علاء لحضور حفلة عيد ميلاد زوجته هند.
أمّا شهد. ومنذ أشهرٍ خلَتْ. وفي تلكَ الليلة بالذات حين أشتدَّ الحوار بينها وبين يوسفَ . ولم يُترَكْ للرؤيّةِ مكان .. ذهب النومُ ورحلَ عنها .. وأخذ الهمُّ منها كلِّ مأخذ. أسرعت لإغلاقِ نوافذ قلبها المتألّمِ . وتذكّرَتْ قولُ والدتها : ” هناك فاصلٌ وهميٌّ بين العفَّةِ والعار. لا يراهُ سوى الحاذقين. كما أنّهُ هناكَ خطٌّ باهتٌ بين الغيرة والشك. لا يجيدُ التعامل معه سوى أصحاب الحكمة ”
وفي صبيحةِ اليوم التالي .. ما إنْ انتصف النهار وعلت الشّمس قبَّة السماء .. لملمتْ أنفاسها .. وجمعت أحلامها .. ومضت إلى أحضان أهلها .. وبكلماتٍ واضحةٍ رسمت لهم خيوط عنكبوت الغيرةِ والشكِّ .. وأخبرتهم عن مسالكِ القلق والحيرة التي عاشتهما طوال ليالٍ لا حدود لها. وأنَّ فناجين القهوة ومرارةِ مذاقها شاهدةٌ على عذاباتِ روحها…
(2)
في ليلة عيد ميلاد هند. كان يوسف أوّل المهنئين لها. وقد انتعشت روحه فرحاً وهو يتسامر مع علاء وهند ؛ عن ذكريات أيام الجامعة, وأجمل طرائفها.
فجأةً جمدت نظرات يوسف, وأطبق صامتاً. حين لمح طلّتها . فكانت له كوقعِ السحرِ المنبثقِ من خاصرةِ الليل المتكاسلِ عن الرحيلِ. فبانت له كأنَّ الفجرَ آتٍ ليداعبَ أنفاسه بلذّةِ الرؤيا.. ولمّا سمعَ صوتها .. هاج خيالهُ .. وحلّقت أمنياته إلى عالم أحلامها .. استمتع بصوتها الرطّبِ .. وشعرَ كأنّهُ يسمعهُ لأوّلِ مرّةٍ.
وما إن اقتربت منه وألقت عليه التحيَّةَ كبقيّةِ الحضورِ .. حتى أَحسَّ برجفةٍ تجتاحُ أضلعه. فأدركَ أنّهُ ككلِّ الرجالِ؛ ترهبهم مفاتن المرأةِ الحسناءِ.فيخشونَ غزُّوَ عواطفها؛ لأنّهم لن يستطيعوا صدَّ نظرات المعجبين بها .
رمقَ صديقهُ بنظرةِ عتابٍ محبَّبةٍ .. تسارعت دقات قلبه .. وأَبتْ نظراته إلا أن تشكر صديقه, وتتراقصُ فرحاً وهو يرمقها .. تعانقتْ نظراتهما بشوقٍ وشغفٍ وهي محمّلَةً بعتابٍ صامتٍ ؛ لطول مدَّةِ الفراقِ …
ما إنْ تلامستْ أيديهما؛ حتى ذابَ عطرُ أناملها في راحته. فابتسم برقّةٍ وقال :
-أنا مشتاقٌ إليكِ , وتواقٌ لحكمتكِ وحنانكِ .
-هلْ أنت متأكّدٌ ممّا تقوله ؟ أم أنَّ كلامكَ نتاجُ ثورةِ اللقاءِ ؟!
-صدّقيني. لكِ في قلبي نبعُ حبٍّ لا ينضبُ.
-ولماذا … إذاً… ؟
-دمعت عيناه , وسرحتْ دموعه على خدّيهِ .
-هوِّنْ عليكَ … فأنا لم أقصد أهانتك أبداً …
صمتٌ .. نظراتٌ حائرةٌ .. أنفاسٌ متدحرجةٌ .. غصّةٌ في الحلقِ .. وبكلماتٍ جانحةٍ نحو الهمسِ قال : ها أنا أعترفُ .. أنَّ وسواسُ الغيرةِ دفعني في لحظاتِ ضعفي ؛ إلى تهوّري , وهروبي على صهوةِ السفر إلى ديار الغربةِ عن الذاتِِ..
فابتسم علاء وقال: ” ما أجملَ الحبُّ حين يتكلَّمُ عندما تخرسُ كلُّ الكلماتْ .. وما أقدسهُ عندما ينتصبُ كشعلة من لهبٍ حين يحجبُ الظلام كلَّ الأشياء.
“… وتأبَّطَ زوجته هند , وتابعا في تقديمِ واجب الاستقبالِ لبقيَّةِ المدعوين.
قبلَ أنْ يصحو الليلُ وتختفي ستائرهُ . سارا معاً في أزقّةٍ عريقةٍ بتواريخها . وقد امتلأَ الفضاءُ أملاً؛ وهما يستمتعانِ بهفهفةِ أجنحة الليل وهي تحرِّكُ أنسامَ الهوى.
رقم العدد ١٦٠٠٩