الجماهير – محمود علي السعيد
الحطب الهش
تأبّط صلاح شوقي بقايا شذرات الشباب العاصفة في أوصاله، وطفق يطوف على حاويات القمامة بحثاً عن وعاء صفيحي يسدّ به رمق الحاجة ويمنحه قطرة دفء, قيّض المطلق له بغيته, عاد أدراجه، والقلب يكاد يطير من الغبطة مهيئاً له مقعداً حجرياً يليق بقامته بعد أن شرخ وجهه بسكين عتيقة فاتحاً فجوة تطل من فرجة شفتيها قبلات اللهب, استقدم بضع قطعات من الحطب الهشّ بهندسة نظام أكل الدهر على صلاحيته وشرب، وأطلق شرارة الرحمة فانطلق الأجيج بصوته الأجش اللاذع وتطايرت شرانق الدفء تطوف في فضاء الغرفة المتخمة بالأجساد, تمايلت بعض القطوف الآدمية الغضة على أغصان الصمت الغسقي الضاري وغطت في سبات حلم أسطوري.
قلب الحديقة
لم يعد الوصول إلى المقبرة المرتجاة بالأمر المستطاع بعد أن دارت رحى التطاحن بين الأخوة الأعداء, فسارع كل طرف يدفن موتاه في المكان الميسور من أية بقعة أرضية تتوفر فيها مستلزمات المواراة. استيقظ قاطنو العمارة رقم صفر على ضربات فأس عصملية المقلع في الحديقة المجاورة, أطلق سليم الناطور نظرة من مسدس عينيه الغائرتين على مربط عنق الزاوية الغربية فاصطدمت بقامة جاره العجوز يحتضن جثة ولده في محاولة فاشلة لدسّه في الحفرة التي اتسع قلب الحديقة لها وعناقيد الدموع تفرط سبحتها حبة حبة.
*
المكافأة
بعد أن وصله مبلغ المكافأة الضنينة عن إحدى قصائده المنشورة في مجلة القطب الجنوبي للقرية الكونية، ملأ هاتفه الجوال برصيد مقنع من الوحدات يكفي مسيرة شهر من عداد التقويم السنوي. رن جرس المنبه مشيراً إلى مكالمة قادمة من بلاد الغربة الصقيعية وبدون مقدمات ترحيبية قال: تكلم مع والدتك, أدار قرص هاتفه على الرقم المقصود فانطلق الصوت الخافت خفوت السراج المضاء على الفتيل بعد أن شحَّ الزيت, كيف حالك يا ولدي وشرعت تتتالى قصص الماضي وحكايات استرجاع الذكريات بشريطها القزحي دون ضابط إيقاع بسبب الشيخوخة المصابة بمسّ من الخرف الدهري، ومسلسل استهلاك الوحدات يتسارع دون إيقاف لعجلة جموحه. راوده شيطان النفس الأمارة أن يغلق الهاتف متذرعاً بانعدام التغطية؛ ليفوز بالبقية الباقية! لكن تهدّجات صوت الأمومة ببحّتها الصدئة أمسك بجلباب روحه، فأطلق لها العنان إلى أن جأر الهاتف بالشكوى فجأة وانقطع البث.
*
حمضيات الوطن
دعا أبو جهاد اليافاوي صديقه القنصل القادم من بلد أوروبي استهلكتها الآلة, وشطحت بها المصالح، إلى بيته المشجَّر بالقرميد الأرجواني. جلسا يتساقيان كؤوس الماضي على وقع موسيقا النسائم قطرة قطرة, يستحضران ذكريات خلت توّجها الصباح بإطلالة حوريات البحر من بين شقوق الموجات المطرزة بالقوارب وقطارات النورس ومكامن الصيد المدروزة كأسنان المشط على صدر الشواطئ، باسترسال لم تقطع مسيرته الدافئة سوى بضع كلمات ضفرها الضيف بسؤال فظ مفاجئ: من أين تجلب هذه الروائح التي ترش بها جدران البيت؟ بلع أبو جهاد ريقه الرطب ثم أطلق من مسدس الشفتين: من عبق عناقيد حمضيات الوطن!.
رقم العدد ١٦٠٢٩