الجماهير – بيانكا ماضيّة
في كلماتي هذه سأرحل قليلاً بالذاكرة نحو سنوات بعيدة خلت، سنوات مرّت وكأنها مرّ سراب.
سأرحل إلى قريتي القنيّة، فلهذه القرية الجميلة الوادعة التي تهب جمالها للناظرين، وطيب هوائها للمشتاقين، يعود فضل الكتابة التي منحتني إياها طبيعتها، إذ لهذه القرية في خاطري ذكرياتٌ ابتدأت منذ الطفولة ولما تنته بعد.
أذكر أن أولى محاولاتي في الكتابة كانت في هذه القرية المانحة للشعر والأدب أجمل الصور، ابتدأت تلك المحاولات في مرحلة اليفاعة، على حافة الدرج الذي يجاوره اخضرارٌ في بيت جدي، الدرج الذي تصعد فيه الروح إلى آفاق لاحدود لها.
على تلك الحافة المطلّة على الفرح، دوّنت أولى حروفي، نسجتها من الصور التي وهبتني ألوانها وأنا أمعن النظر في الأفق البعيد. حتى هذه اللحظة أتذكر تلك الإطلالة الفاتنة التي طلعت بها الطبيعة في ذلك اليوم، كأنها ساحرةٌ تهدي للمتأمل تلك العصا التي تجعله يرمي بالحروف في فضاء الصفحات.
وتلك كانت البداية، ولم ينته إلهام هذه القرية الذي وشم الصورَ في ذاكرتي، فكلُّ بقعة فيها تأخذني من تلابيب شوقي لألمسَ فتنتها، لأرسمَ وشوشات العصافير فيها، أخالها لاتدعني في لحظات اللاوعي إلا لتطلّ من بين السطور، تتراقص أمامي حافية من الزمن، تنساب هيفاءَ على قرع جرس الكنيسة لتطالبني بأداء طقوس الكتابة، تأتي من زمن لم يولّ ظهره لي، تأتي مع هديل يمام في صباحات هذه القرية الأسطورية، مع صياح ديك أضاع بوصلته الزمنية في موعد الفجر، مع إشراقة شمس أدبرت عن الكون لتدفئ بأشعتها جسد الكلمات.
لمثل هذه الأيام في ذاكرتي أكثرُ من عيد وبهجة، الطقوس التي أبت تفاصيلُها الرحيلَ عن ذاكرتي، مازالت تمشي على بلاطات الساحة بتؤدة .. بكبرياء عروس ذاهبة نحو الكنيسة تحفّها الزغاريد والأحلام من كل جانب.
مازالت تلك الطقوس تُنبت حبّاتِ رز منثورة من أصابع النسوة؛ لتكوّن حقولا من وله وعشق وحنين لأزمنة كان فيها الأجداد يتكئون على عصا الشوق، يحلمون بالعنب والتين والزيتون ويطؤون عتبات الذكريات، ويتأملون أطوار السنين.
طقوسٌ كان لها في كل زقاق حكايةٌ، وفي كل بيت رائحةُ بخور، وطعمُ نبيذ عتّقته الأيامُ للذكرى.
على حواف تلك الأزقة يطلّ الزمن منشدا ألحانَ خلوده، وعلى الأبواب الخشبية العتيقة لمساتُ ألف يد ويد، وانتظارٌ لسماع أخبار تحملها النسماتُ من مدن بعيدة، حاملة شوقَ الأبناء للقرية، للقرية التي دنت من صغارها لتزقّهم طعمَ الحياة.
لم يكن بعيدا ذلك الزمن، كأنه رفّة جناح من عصفور يحمل بمنقاره قشةَ حنين يخبئها بين الجدران، وتُكثر القشّاتُ لتتشابكَ ناسجة أعشاشا من ذكريات وأشجار أهدت أوراقَها للغياب.
لكل هذا وأزيد، لما تزل القنيةُ راسخة في الذاكرة، تطلّ بهوائها لتنعشَ الفؤادَ، تدنو من أسوار البيوت لتحكي قصصا عن حقائب سفر، ومحطات أتعبها الرحيل.
الشرفاتُ فيها تطلّ على بحور الزيتون، والنوافذ المزنّرة بالياسمين والفل والحبق فتحت درفاتها على قناديل زيت، وشموع تتراقص ألهبتها مقاومة نزعة النسائم، والأيقونات التي علّقت على جدران الأعياد مازالت ترشح ألوانها بصورة السيدة العذراء.
هذه القنيّة التي وهبت ماءها للعطاشى، لم ينضب فيها خريرُ الزمن، فها هي في كل إشراقة شمس تلوّن بساتينها بالأشواق، لم يشخِ القصبُ فيها ولا ناحت على جوانبها الغربان.
ها هي في كل يوم قريةٌ ريّانة تدنو من سهول الحب، فتهدي للعاشقين سلالَ الأزهار المقطوفة من حدائق الأفق.
لهذا كله وأزيد، وددتُ أن أدوّن حروفي هذه لديرها الذي يجاور رائحة القرابين، ديرِها الذي تسير في دهاليزه خطواتُ رهبان تباركوا من خشب الصليب الذي علّق لمحو الخطايا منذ ألفين وأزيد، وددت أن أدوّن: طوبى لأرواح من رحلوا، وأرواح من بقوا اليوم متلمّسين سبيل الخلاص..
طوبى لقلوب تعشق الأرض فتتمسك بها، طوبى لليوم الذي ستفتح هذه القرية ذراعيها لأبنائها المشتاقين الذين قطعوا عهداً معها وإليها: عائدون مع عناصر الجيش العربي السوري محرراً إياها من غزو عثمانيّ سلجوقيّ كريه، عائدون رافعين رايات النصر عالياً.. عائدون إلى كل شبر من إدلب وقراها، ولتذهب أجساد من غزاها وأرواحهم إلى الجحيم.
رقم العدد 16087