الجماهير – بيانكا ماضيّة
بكثير من الوقاحة والفجاجة، وبكثير من “الزعرنة” والإيهام بالحفاظ على الإرثين المسيحي والإسلامي من محاولات (العلمنة) يرد أردوغان على الغضب العالمي بتحويل كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد بالقول: لا نستغرب إذا نادوا لاحقًا بتحويل الكعبة التي هي أقدم دار عبادة أو المسجد الأقصى إلى متحف، ونسأل الله تعالى أن يحفظ وطننا والإنسانية من هذه العقلية إلى الأبد، وألا يختبر هذه الأمة ثانية بمن يكنّون العداوة لقيمها!!…ووجهة النظر هذه كعادتها في كل الفترات ما هي إلا مظهر من المفاهيم المناهضة للعصرية التي تنضوي تحت ما يسمى بالحداثة، وما الإصرار على غلق الفاتيكان وتحويله إلى متحف، والإبقاء على آيا صوفيا كمتحف، إلا نتاج نفس المنطق.
متابعاً القول: ولا شك أنه من حق تركيا تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد بشكل يوافق ما جاء في سند الوقف (الوقفية)، فلتنظروا إلى الصورة التي خلفي، سترون سند وقف ضخم، إنها وقفية السلطان محمد الفاتح، وكل ما تضمّه هذه الوقفية أساسٌ لنا.. انتهى كلامه.
هذا اللسان الطائفيّ المفعم بالعنصرية والكره وإلغاء الآخر والتعصب والحقد الأعمى وقتل كل من يخالف هذا اللسان القذر، ابن السلطنة العثمانيّة التي لم تنشر عبر تاريخها الطويل سوى ثقافة القتل ونشر الجهل والتعصب للطائفة الواحدة، قتل الأرمن والسريان والآشوريين واليونان، وبكل ما حشر دماغه من هذه الثقافة القاتلة للروح البشرية، يوهم أنه يحافظ على الإنسانيّة من هذه العقلية، ناسياً ومتناسياً (الإنسانية) في قمّة ممارستها في حربه على سورية، في إعادة نشر هذه الثقافة مجدّداً عبر تبنّيه، فكراً ومالاً وممارسة، المجموعات التكفيريّة التي أزهقت آلاف أرواح السوريين..
فما الذي فعله أردوغان المتذبذب بتوقيعه قرار تحويل كنيسة “آيا صوفيا” إلى مسجد؟! يبدو أنه اليوم يفتح النار عليه في استخدامه الدين للوصول إلى أغراضه وأهدافه البعيدة كل البعد عن الدين، ففي قراره هذا ابتعاد عن هوية تركيا العلمانية والعودة نحو الأسلمة مجدداً متخذاً شكل خلافة ولكن بصورة عصرية يلفّها الخطاب المنافق الذي تتضح بين سطوره الأهداف الحقيقية وراء هذا التحويل ألا وهو الهدف الأبعد المسجد الأقصى!.فإذا كان قرار إبقاء الكاتدرائية على أنها متحف قد أثار حفيظته، أفلم تثير حفيظته الحفريات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في القدس تحت المسجد الأقصى. بالتأكيد إن نفاقه وماسونيته هما اللذان يدفعانه للرد على الانتقادات بهذا الشكل ضارباً بالمواثيق الدولية عرض الحائط، وفي هذا لا خلاف بين مايفعله ومايفعله الكيان الإسرائيلي في القدس من تشويه للمقدسات الإسلامية والمسيحية.
استنكار مسيحي ومطالبة باستئناف قضائي
– في أول رد فعل علني له على آيا صوفيا قال البابا فرانسيس بابا الفاتيكان اليوم الأحد في الصلاة الأسبوعية في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان إن التفكير في تحويل متحف آيا صوفيا في اسطنبول إلى مسجد “يؤلمه للغاية”.
فيما ندد واستنكر مجلس الكنائس العالمي الذي يضم 350 كنيسة، ويمثل أكثر من نصف مليار مسيحي في العالم، قرار أردوغان، داعياً إياه للتراجع عنه، فقد أعرب لوان ساوكا الأمين العام الانتقالي لمجلس الكنائس العالمي، عن شعور منظمته بالحزن وخيبة الأمل جراء القرار التركي، واصفاً إياه بـ”دليل على الانقسام والتفرد في اتخاذ القرار، وهو ما يقوض الجهود المبذولة لتقريب أتباع الأديان المختلفة من بعضها البعض” وأن “آيا صوفيا كانت دائماً مكاناً للانفتاح واللقاء والإلهام للناس من جميع الأمم والأديان منذ عام 1934 عندما جرى تحويلها إلى متحف”. وقد خاطب المجلس في رسالته، أردوغان، بالقول:”بقراركم تحويل آيا صوفيا إلى مسجد فإنكم تسيئون إلى سمة الانفتاح التركي وتحولونها إلى سمة للتفرقة والتفرد”. وأن هذه “الخطوة ستبث روح الشك وانعدام الثقة، وتقوض الجهود الرامية إلى التقريب بين أتباع جميع الأديان على طاولة الحوار والتعاون”.وحذره من أن هذه الخطوة “قد تشجع طموحات مجموعات أخرى لتغيير الأوضاع القائمة في أماكن أخرى مما قد يؤدي إلى بث روح الفرقة بين أتباع الأديان”.
أما مجلس كنائس الشرق الأوسط ففي بيان أصدره أمس أكد أن موقف أردوغان يستدعي من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية موقفاً حاسماً، مع ترجمة لهذا الموقف باستئناف قضائي لقرار المحكمة العليا في تركيا لإحقاق العدالة استناداً إلى مبدئية الحرية الدينية فضلا عن الرمزية التاريخية التي تمثلها كنيسة آيا صوفيا. مشيراً إلى أن أخطر مافي هذا القرار، أنه “يأتي خارج سياق مسار العيش المشترك المسيحي- الإسلامي، والذي كانت أبرز تجلياته في فبراير من العام الماضي بوثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك…. كما كل مبادرات حوار الأديان في العقود الثلاثة الأخيرة، ما يجعل من هذا القرار تجاوزا لمسيرة نقية من التلاقي على الخير العام والسلام في مواجهة العصبيات والتطرف”.
وقد دعا مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيانه القوى المجتمعية والدينية الحية في تركيا، للتحرك على كل المستويات؛ لوضع حد لهذا الاعتداء والتجاوز بما يحافظ على حقيقة العيش المشترك بعمقها، مؤكداً أن العالم أجمع معني بوقفة ضمير وموقف حاسم من هذا القرار.
أما الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فقد استنكرت أيضاً هذا القرار ووصفته بأنه “عودة إلى العصور الوسطى”. إذ قال الأسقف ميتروبوليت إلاريون، رئيس إدارة العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو: “إنه في عالم متعدد المعتقدات من الضروري احترام المشاعر الدينية”، مضيفاً” أن تركيا لا تفتقر إلى المساجد”. وعدّ الأسقف الروسي القرار سياسياً بوضوح، واصفا إياه بأنه “انتهاك غير مقبول لحرية الدين”، مضيفاً “أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لا تفهم الدافع، وراء تغيير وضع متحف آيا صوفيا، وتعتقد أن السياسة الداخلية التركية وراء هذه الخطوة”
أما البطريرك المسكوني بارثولوميو، الزعيم الروحي لنحو 300 مليون مسيحي أرثوذكسي حول العالم، ومقره في اسطنبول، فقد قال “إن تحويل المبنى إلى مسجد سيخيب آمال المسيحيين، وسوف يمزق الشرق والغرب”..
العثمانيون يهينون دور العبادة عبر تاريخهم!.
وبالعودة إلى تاريخ هذه الكاتدرائية الذي تحدثت عنه مواقع إلكترونيّة كثيرة، فقد تحولت من كنيسة إلى مسجد في عصر السلطان الغازي محمد الفاتح، حيث قام بتحويل الكنيسة إلى مسجد دون إذن من الرهبان، ولم يشترها كما تزعم الحكومة التركية، وفي الحقيقة ليست “آيا صوفيا” فقط ضحية إهانة دور العبادة لغير المسلمين في العهد العثماني، فقد قام عدد من سلاطين آل عثمان بإهانة دور العبادة المسيحية والاستيلاء عليها دون وجه حق، وحولوها إلى جوامع، رغم أنه شرعاً لا يجوز الصلاة على أرض مغتصبة. وبحسب موقع “اليوم السابع” وتحت عنوان “العثمانيون وتاريخ إهانة دور العبادة.. 5 كنائس تحولت لمساجد غير آيا صوفيا” أشار المقال إلى أن هناك العديد من الكنائس التي تحولت إلى مساجد في العصر العثماني، بعضها تحول إلى متاحف في وقت لاحق بعد قيام الجمهورية التركية، وتولاها محرر الأتراك مصطفى كمال أتاتورك، ومن هذه الكنائس: كنيسة خورا وهي كنيسة بيزنطية في إسطنبول، وكان يطلق عليها حتى القرن السادس عشر الميلادي، كنيسة المخلص.
ودير القديس أندرو (مسجد كوجا مصطفى باشا) وقد كان كنيسة بيزنطية واقعة على التل السابع للقسطنطينية، شمال بساماتيا (ساماتيا التركية)، تم تأسيسها في القرن الثامن ومكرسة لسانت أندرو كريت الأيقوني الذي استشهد في عهد قسطنطين الخامس (741-775) تم تحويلها إلى مسجد من قبل كوكا مصطفى باشا، الوزير الأكبر للسلطان الغازي بايزيد الثاني، في عام 1486، رغم أن المكان يحتوى رفات عدد من القديسين، لكنهم لم يحترموها وحولها لمسجد.
وكذلك كنيسة القديس يوحنا المعمدان (مسجد أحمد باشا) فبعد احتلال القسطنطينية استخدمت الراهبات الكنيسة كملجأ وللصلاة، كانت الكنيسة واحدة من عدة كنائس تم توزيع الراهبات عليها بعد طردهن من كنيسة الرسل المقدسة التي تم هدمها وسرقتها لتتحول لمسجد، ظلت الكنيسة محل للراهبات حتى عام 1588 حينما أمر السلطان بطرد الراهبات وتحويل الكنيسة هي الأخرى لمسجد وتمت تسميته بمسجد أحمد باشا.
وكنيسة القديسة صوفيا (مسجد طرابزون) وهي واحدة من أجمل الكنائس البيزنطية، بنيت في العام 1263 في طرابزون، استمرت تعمل ككنيسة وملتقى للرهبان حتى غزو المدينة عام 1461، بين 1461 و 1584 تم تحويلها لمسجد في العهد السلطان الغازي محمد الحادي عشر، حتى صدر قرار تحويلها إلى متحف إنساني لجميع الأديان عام 1964، ومن عام 2012 منذ أمرت حكومة أردوغان بعودتها إلى مسجد مرة أخرى.
وكاتدرائية القديس نيقولاوس (جامع لالا مصطفى باشا) في قبرص إذ تم بناء الكاتدرائية المقدسة في قبرص فاغاموستا عام 1328، تم تكريسها ككنيسة كاثوليكية بالعام 1328، في آب 1571 سقطت فاغاموستا في حوزة الأتراك، علي يد القائد لالا مصطفى فتم تحويلها إلى مسجد وسمي بمسجد آيا صوفيا، وفي عام 1954م غير اسمه مجددا إلى جامع لالا مصطفى باشا، وإلى اليوم لم تعد الكنيسة إلى أصلها كدار عبادة مسيحية.
انتقادات لاذعة
الدكتور نضال قبلان وعبر صفحته في موقع التواصل الاجتماعي، أشار إلى أن “تحويل كنيسة آيا صوفيا في اسطنبول إلى مسجد، لن يغير تاريخها ورمزيتها لمسيحيي الشرق والعالم. قرار أردوغان المهووس بالسلطنة العثمانية شوارعيّ تعبويّ دنيء مثله، وما كان ليحدث لولا صمت العالم عن جرائمه في سورية وليبيا” مختتماً كلامه بموقف الغرب من أردوغان وتغاضيه عن حماقاته قائلاً: (إذا بقي الغرب يتعامل مع هذا الإخونجي السافل، يتغاضى عن سفاهاته وحماقاته، ولم يحرقه، يكون أسفل منه).
وتحت عنوان”القسطنطينية وآيا صوفيا وبائع البطيخ القذر” بدأ غسان الشامي مقاله بالقول: “من بديهيات التاريخ سقوط الامبراطوريات وموت الأباطرة والبطرانين، ومن بديهيات العلم قراءة تاريخ الإمبراطوريات والدول في السياسة والعسكر والعمران والثقافة والفكر. لكن مع بائع البطيخ الإخونجي المنافق رجب طيب أردوغان تختلف الأمور، لأنك أمام حامل إرث إيديولوجي مذهبي مغرق بالتخلف والتعصب ووهم الماضي القذر الذي ألبس رداء سلطانياً مجبولاً بالحقد وأكذوبة التفوق”.
وينهيها بالقول: “آيا صوفيا كنيسة – كاتدرائية- بازليك، لا يمكن لأي بائع بطيخ أو شاورما تغيير هويتها، ومعمارها وأيقوناتها تدل عليها، وهي ليست متحفاً، بل كنيسة وجزءاً باهراً من التراث الإنساني للبشرية جمعاء، أما سكوت المسلمين والعرب عن فعلة بائع البطيخ بآيا صوفيا فستؤسس لسابقة يفعل فيها بائع القتل الإسرائيلي فعلته لتغيير معالم وهوية المسجد الأقصى.
أعرف أن العرب سيسكتون ويقفلون أفواههم لأنهم أجبن من مواجهة التركي المتأسلم،.. بحجة الإسلام..أما الغرب فهو كاذب حتى انقطاع النفس، وسيكتفي رسمياً بالبيانات، بيد أن نار آيا صوفيا ستنكأ جرحاً لدى المسيحيين، يعمّق صراع الأديان ويغضّن انتظار انتقام ما. هكذا يخلق الكذبة والمتعصبون الحروب، ولنتذكر جيداً أن إحراق كنيسة القيامة على يد زبانية الحاكم بأمر الله كان أحد أسباب الحروب الصليبية. بئس المتعصبين وسحقاً للساكتين وتفاً على المتترّكين”.
تاريخ آيا صوفيا
يذكر أن كاتدرائية “آيا صوفيا” تعدّ صرحاً دينياً مهيباً؛ تم بناؤها في القرن السادس تحت حكم الإمبراطور البيزنطي جستنيان، وكانت أضخم كاتدرائية للمسيحيين الأرثوذكس طوال تسعمئة عام، ومن ثم أصبحت أحد أعظم مساجد المسلمين على مدى نحو خمسة قرون، ثم صارت متحفاً فنياً منذ 1934 بقرار من مصطفى كمال أتاتورك.. وتعتبره منظمة اليونسكو من الآثار التاريخية المنتمية إلى الثروة الثقافية العالمية.
وفي 31 آيار / مايو 2014م نظمت جمعية تسمى “شباب الأناضول” فعالية لصلاة الفجر في ساحة المسجد تحت شعار “أحضر سجادتك وتعال”، وذلك في إطار حملة داعية إلى إعادة متحف آيا صوفيا إلى مسجد. وكانت الجمعية قد ذكرت أنها قامت بجمع 15 مليون توقيع للمطالبة بإعادة المتحف إلى مسجد. إلا أن مستشار رئيس الوزراء قد صرح بأنه لا نية لتغيير الوضع الحالي لآيا صوفيا، وفي العاشر من تموز 2020 وافقت المحكمة الإدارية العليا التركية على قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، وبهذا ألغي قرار تحويله إلى متحف، وأصبح مسجداً بشكل رسمي. ووقع أردوغان على مرسوم يقضي بفتح معلم آيا صوفيا التاريخي كمسجد.
وقد قالت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) إن لجنة التراث العالمي ستراجع موقف “آيا صوفيا” بعد أن أعلن الرئيس التركي أن المبنى الأثري في إسطنبول سيفتتح مسجدا. وأضافت في بيان لها قولها “من المؤسف أن القرار التركي لم يكن محل نقاش ولا حتى إخطار مسبق”. ودعت المنظمة السلطات التركية لفتح حوار من دون تأخير لتجنب العودة للوراء فيما يتعلق بالقيمة العالمية لذلك الإرث الاستثنائي والذي سيخضع الحفاظ عليه لمراجعة من لجنة التراث العالمي في جلستها المقبلة. وقد عبّرت مديرة المنظمة أودري أزولاي عن “الأسف الشديد لقرارات السلطات التركية، والتي اتخذت من دون حوار مسبق، لتعديل وضع آيا صوفيا”.
رقم العدد ١٦١٠٠