الجماهير- بيانكا ماضيّة
هي المغلفة بورق من ذكرياتِ آهاتٍ معصورةٍ كالنبيذ، هي الباردة من كل نفس حار يجعلها تورق، لكنها اليوم تركع أمام أقدامهما الحارّة في هذا الطقس البارد. هي المشتاقة لروحٍ هائمة، لروح لم تسمع هسيسها بعد، هي جمادٌ لا يقوى على التطلع في وجهي أو وجهها.
ولكنها كانت تنصت إلى صوتنا، تراقب تحركاتنا، تحزن حين نذهب إلى سواها، وتعود فترفرف فرحة حين ترانا.
-سترانا دوماً. ستعيش من خلال أنفاسنا. تأسرنا ونأسرها لنعيش معاً.
كانت مهجورة، هكذا وجدتها، بائسة، لاشيء يجعلها تعشق الحياة، سوى أصوات بعيدة، ولكن تلك الأصوات لم تعد تروقها، أصوات غريبة بعيدة بعد السماء عن الأرض. أما أصوات الداخل القريب فلم تكن قد أعارتها اهتماماً لأنها لم ترَ فيها صوتها الداخلي. كانت جل ماسمعته لايمت إلى الحب والحنان بصلة، جل ماسمعته كان يجعلها تغلق أذنيها عما يحصل من قتل للمشاعر.
جل ماكانت تسمعه من كلامه، صوته الداخلي، صوته المشبع بالأنين والقهر، حتى تسرّب اليأس إلى حياته، والجمود إلى مشاعره. كل أحاسيسه كانت باردة برودة هذا الطقس.
اليوم تفاجأت واندهشت، إذ رأته في هذه الحلّة، تساءلت الشجرة: من أنت؟ أأنت الرجل نفسه، أم أنت عاشق جديد؟!
لم تكن تراه كما كانت تراه من قبل، كان عارياً من كل أوراقه وذكرياته.
وعادت لتسأله: ماذا دهاك أيها الرجل؟!
– لست جديداً .أنا العاشق الكلي ،الدائم الحضور، الكلي الوجود.
-ولكني لم أكن أعرفك هكذا، كنت أرنو إليك وأتمعن في وجودك كله ولم أكن أدرك إلا حين عرّاك ذات الصوت الأنثوي، أنك هو ذاك الكائن الدائم الوجود.
– عريي كشفٌ لها، وقد عرفتِ أنتِ من تكون هي!.
– نعم وقد رأيتها مغتبطة حين رأتك على حقيقتك التي لاترتقي إليها أية حقيقة.
– عرّتني من زيفي، ومن حراشف مجتمعي، ومن الهواء الملوّث، والشمس المائلة للغياب.. لكنها اكتشفتني، أوجدتني، أخرجتني من داخلها، كائناً جديداً، هي عشتاري وقد خلقتني بعلاً من جديد.
– رأتك وأنت تحلّق بعيداً، تعلو عن سطح الأرض، والبحر، والغيوم، رأتك حين أوجدتك ملاكاً يرفرف بنور يشع في أرجاء هذا الكون.
– كنت البعل أبحث عن عناتي، لم أعرف أنها هي.
وعندما وقفتُ أمامها، تذكرت وقلت : هي ذي، هأنا، نحن هنا..
– وكم كانت تبحث عنك، من خلال النوافذ والأبواب، والجدران كلها، كانت تلمحك هنا وهناك، يلتصق خيالك بخيالها هنا وهناك، وكم جمعتكما أوراق وسطور وحكايات.
– ونسينا الحكايات، ومحونا الحكايات. وتحولنا حكاية حب واحدة لها بدايتها، لها نهايتها، لكنها ليست كالنهايات.
– ولكن الحكاية الأطول التي لم تذكرها الروايات، رأيتها مكتوبة في حروفكما، في آهاتكما، في هسيسكما، في مشيكما معاً في جنّة لم تسقطا منها، بل عدتما إليها لتكتبا قصة ولهٍ جديد!
رقم العدد ١٦٢٣٦