الجماهير- بيانكا ماضيّة
فاجأني اليوم رئيس التحرير ببروفا قديمة لملحق “فضاءات الجماهير الثقافي” الذي كان يصدر عن صحيفة الجماهير قبل الحرب. هذه البروفا كانت موجودة بين الأوراق القديمة التي نُسِّقت اليوم. وضعها على طاولتي قبل أن أصل إلى الجريدة، إذ يدرك تماماً كم أحبّ الورق وكم لي من ذكريات جميلة في أثناء العمل بهذا الملحق الثقافي الذي كنت أشرف عليه ذات يوم .
ما إن فتحت باب مكتبي حتى وجدت هذه البروفا على طاولتي، فرحتُ بها، وأخذتُ أقلّب الأوراق فيها، وعدتُ بذاكرتي إلى تلك الأيام التي كنا نمضيها بين الورق ورائحته ومعانيه.
أول ملحق ثقافي صدر عن صحيفة الجماهير، كان الملحق الخاص باحتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2006، حين كان الأستاذ محمد ماهر موقع رئيس تحريرها، صدر من ذاك الملحق خمسة أعداد متوالية بدئ العمل به في أول يوم الاحتفالية حتى الخامس منها. في ذلك الوقت كنا ننتهي من إعداد صحيفة الجماهير اليومية “كتابة وتنضيداً وإخراجاً” مساء، ويبدأ العمل في الملحق الثقافي الساعة العاشرة وينتهي في العاشرة صباحاً لإرساله إلى الطباعة.
لم نكن نهدأ لحظة، وكانت المتعة التي نشعر بها لاتقاس، فالعمل في الصحيفة الورقيّة ذو نكهة خاصة يعرفها كل من عمل في الصحف الورقيّة، فإذ ماقارنا اليوم بين عمل الصحيفة إلكترونياً وبينه ورقيّاً كما كان قبل الحرب لوجدنا أن مانقوم به اليوم يكاد يكون لامتعة له ولانكهة. الفائدة الوحيدة التي حظيت بها الصحف اليوم هي السرعة في نشر الخبر، أما الفوائد الأخرى فامّحت مع زوال الورق من حياتنا الصحفيّة، وأولها التوثيق الورقي.
وتلى ملحق احتفالية حلب، ملحق فضاءات الثقافي “النصف شهري” الذي صدر منه مايقارب ثلاثين عدداً، صدر العدد الأول بتاريخ الاثنين21/2/ 2011 ، وكان رئيس التحرير آنذاك الأستاذ عبدالكريم عبيد، وحفل بالعديد من المواضيع المتميزة بأقلام كتّاب وأدباء وصحفيي حلب، لابل بأقلام كتّاب سوريين أيضاً، وأذكر أني دعوت غير كاتب وشاعر سوري للكتابة فيه.
في العدد الأول كتبت في زاوية (رواق الحرف) التي عنونتها للمقالات الخاصة بي، وتحت عنوان (لاحدود لفضاءاتنا) الآتي:
(انحزنا وننحاز دوماً إلى كل الفضاءات التي تبسط الآفاق واسعة أمام تطلعاتنا الثقافية والأدبية، إلا أن فضاءنا الحلبيّ هو فسحة الهواء التي نشتَمُّ من خلالها عبق الأمس واليوم، عبق نهر قويق العائد من بساتين الخضرة إلى أضواء تتلألأ على الجانبين، إلى كرسيين انتحيا جانباً من رصيف ليستمعا إلى وشوشة الناس المارين. حلب التي تأتينا اليوم ليست كحلب الأمس، كل شيء فيها يدعونا إلى التأمل، إلى المقارنة، إلى الإمعان في هذا التغيير الذي خطا خطوات متسارعة باتجاه المستقبل، حتى بتنا نتساءل ماذا تريد حلب منا اليوم؟! هل تريد منا أدباً أم غناء أم فناً، أم كلّ ذلك وأزيد!! هل تريد أن تعود بنا إلى التاريخ أم تقودنا إلى المستقبل البعيد؟!).
وفي عدد الاثنين 25/4/2011، وحينها كانت الحرب في بدايتها، وكان مصطلح الأزمة هو المتداول، وتحت عنوان (الحوار الوطنيّ من أجل الأجمل) كتبت:(في هذه اللحظات الحرجة من تاريخ سورية، ومن خلال جملة الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة تجاوباً مع متطلبات الشعب، وبالنظر إلى تاريخ الشعوب قاطبة، يبدو المشهد السوري- إذا ماتم ائتلاف جميع الجهات السياسية، والأنماط الفكرية قابلاً لعبور هذه المرحلة نحو آفاق أفضل)….
وختمت الزاوية بالقول: (لقد أعلن الشعب السوري تمسّكه بالوحدة الوطنية منذ بداية الأحداث التي شهدناها، ورفض أية دعوى طائفية أو مذهبية، وهو متمسك بأرضه ووطنه، وهو بانتظار حلّ ناجع، يعيد إليه الاستقرار والطمأنينة، والوطن اليوم بحاجة إلى فتح باب الحوار الوطني الذي لايستبعد أحداً، ولا يلغي أحداً أو يقصيه، وهو وحده الطريق إلى مستقبل آمن تتبوأ فيه سورية الصدارة بالمقارنة مع ماحصل في الدول العربية الأخرى التي شهدنا “ثوراتها”، مستقبل يقوده الرئيس الأسد بروح وطنية تنتمي إلى جيل الشباب القادر اليوم على صناعة هذا المستقبل، والمتطلع إلى التغيير، والقادر على نقل الوطن إلى آفاق الحرية والعدالة والمساواة، آفاق تصنع تاريخاً جديداً في سورية و”تغلق باب الآلام مرة واحدة وإلى الأبد”. يهوذا !!!… اقبض دنانيرك وامضِ.. لقد تمّ! وقيامة سورية ستكون بحياة جديدة نعيشها جميعاً تحت سقف هذا الوطن، ولننطلق جميعاً نحو محبة وسلام هذا الوطن المقدس).
أقرأ هذا الكلام وأفكر بقيامة سورية، بالقوة والإرادة والتمسك بالوطن تلك التي تمتع بها الشعب السوري في حربه مع قوى الإرهاب، وبالتضحيات العظيمة التي قدمها جيشنا العظيم، الجيش العربي السوري في سبيل حرية سورية، رحم الله شهداءنا الأبرار وحمى كل فرد يدافع عن هذه الأرض عن إيمان بها وثبات وقدسيّة.
ذكريات جميلة استدعتها بروفا ملحق كانت منسيّة على الرفوف، ولكن مايتعلق بها لايمكن أن يُمحى من الذاكرة.
رقم العدد ١٦٢٤٩