الجماهير – أسماء خيرو
على الرغم من أنّها لم تتلق تعليماً أكاديمياً إلا أنّ لها نتاجاً أدبياً جديرا بالإعجاب، كل شيء فيه مصوغ بعناية فائقة، يعكس مزيجاً من وجدانها الثائر المتألم وروحها الشفافة إلى جوار قلبها المرهف ونفسها الراقية ،هي شاعرة تحمل ملامح خاصة بها، تنتصر للرجل، وتتّحد معه بالحب الصوفي ، وببصمتها الخاصة تحيل آلامها ومتاعبها إلى كلماتٍ مليئةٍ بالهدفِ والغاية كي تنتصر على واقعها، وحتى تزداد معرفتنا بالقارئة النهمة التي صدر لها حتي يومنا هذا أربعة دواوين شعرية بعناوين (مُهجة تراق – وسلاماً أيها الحُزن – ورِعاف القلب – وقَلبي فراشة الحقل ) كان لابّد ” للجماهير ” من وقفة للحِوار مع الشاعرة منى بدوي.
*نحن وإن كَبُرنا أبناء الأمس، الطفولة والصبا هي من شكلتنا .. حدثيني عن الطفولة والصبا وما تأثيرها في تشكيل قدراتك الأدبية ؟
طفولتي كان لها أثر كبير في تشكيل قدراتي الأدبية ،إذ كنت طفلةً لاتحب الاختلاط ، كنت أجلس في غرفة جدتي مع ألعابي من الصباح حتى المساء ، لم يكن لدي وقت سوى لتنمية مواهبي الفنية من (خياطة ، وحياكة ورسم ، واختراع التصاميم ) ، وعندما بلغت العاشرة بدأت موهبة القراءة تظهر لدي ، فلقد كنت أقرأ بنهم شديد حتى أني قرأت في ذلك العمر مجلدا مكونا من ٢٠٠ صفحة في ليلة واحدة.
صباي كان حافلا بالاهتمام بالعائلة وعبادتها، حيث تفرغت لزوجي ولتربية الأولاد ، وبعد أن بلغت الخامسة والأربعين من العمر ، تفرغت لكتابة الشعر ، في البداية كانت كتاباتي عشوائية لم أكن أعرف أين أضع قلمي ، وشيئاً فشيئاً ، أصبحت كتاباتي الشعرية منظمة كالحياة ، فحياتي يمكن أن أقول عنها إنها كانت مليئة بالتجارب ورغم ماذقته من مرارات، إلا أني وهبت نفسي لإسعاد عائلتي ، الحياة بمختلف مراحلها هي من شكلت قدراتي الأدبية، وليس فقط الطفولة والصبا.
* قلتِ إنك بارعة في الخياطة والحياكة، أي لديك حياة عملية ،بعيداً عن الأدب ، ماعلاقة الحياة العملية بالأدب وكيف يلتقيان ؟
حقيقة ،وباعتقادي أن هناك علاقة وثيقة بين ماهو عملي وماهو أدبي ،ذلك لأن أصلهما يؤدي إلى طريق واحد، ألا وهو الفن والجمال، فعندما أمسك بالإبرة والخيط، أو سنارة الحياكة، وأبدأ مثلا بحياكة فراشة من خيوط الساتان ، عندها أنا أكتب قصيدة للإنسان وللحبيب ، وللوطن بالخيط مثلما كتبتها بالقلم. فالحياكة إحساس وجمال تراه العين ، بينما الشعر إحساس وشعور يراه القلب ، فأنا أرسم بالإبرة لوحة ألوانها الخيوط ، وبالقلم أرسم لوحة ألوانها الكلمات ويلتقيان عندما نؤمن أننا خلقنا لأجل رسالة يجب أن نؤديها سواء في حياتنا الأدبية أو العملية.
* عندما تكتبين الشعر ماهي القضايا التي تستهوي قلمك ؟ وإلى أي مدى تتحقق الواقعية بأبعادها الاجتماعية في نتاجك الشعري ؟
مايستهوي قلمي الأمراض الاجتماعية من ( ظلم- وعنف – وقهر – واستغلال ) وبالأخص ظلم الرجل للمرأة ، وظلم المرأة للرجل، وهنا أنا أتكلم عن الرجل لأنه يهمني كثيراً ، إذ يمثل نظيري، وصديقي ، ونصفي الذي لايتجزأ ، له كل الأسماء الجميلة ، ولقد واجهت انتقادات كثيرة بسبب انتصاري للرجل وتسليط الضوء على الظلم الواقع عليه ، ولكني لم استسلم ، وسأظل أكتب ، فما نفع الكتابة إذا لم تكن من الواقع ، فعندما يعترف المجتمع بأن لديه أمراضاً اجتماعية فهذا دليل الشفاء ، أما إن لم يعترف بوجودها سيتفاقم المرض، ويستشري ويؤدي بالمجتمع إلى نهايات غير مرغوب بها ، وأعتقد أن الواقعية تتحقق إلى مدى أبعد ، باعتبار أن المشكلة الاجتماعية ليست إلا بعداً قريبا وملموسا من مشاكل الإنسان وهمومه وآلامه ، لذلك أسلط على الإنسان وعلى أوجاعه وانكساراته ، وانتصاراته ، ومعظم كتاباتي أستوحيها من الواقع وإن كان فيها الكثير من المرارة والألم..
* آخر إصداراتك الأدبية كانت ديوان” قلبي فراشة الحقل” حدثيني ماسبب تسميته بهذا الاسم؟ ومن أين استقيتي مضامين القصائد الشعرية ؟ وألا تعتقدين أن قصائدك فيها مغالاة في الحب؟ ..
جاءت التسمية من قصيدة في الديوان .. ومضمون القصائد معظمها من الرصيد الهائل من الذكريات والتجارب التي عشتها ، كتبت عن الألم الذي بداخلي، عن المرأة الهادئة والشفافة والحالمة والعاشقة ، فضلاً عن المرأة المعذبة والمتعبة والمظلومة ، ركزت على المرأة لأنها نواة المجتمع وهي التي تحافظ على خيط الحياة من الانقطاع ، والمجتمعات ترتقي بارتقاء المرأة والعكس صحيح ، ولاأعتقد أن هناك مغالاة في الحب، في أيٍّ من قصائدي، فالرجل يستحق أن يقدس بالحب والاهتمام، لأني أعتبره نظيراً لي وليس نداً لي ، وماذا تكون الحياة إلا تلك اللحظة التي تستيقظ فيها المشاعر المتأججة وتعزف على قيثارة الحب ، الرجل إنسان جدير بأن توليه المرأة كل الاهتمام ،لأنّه نصفها الآخر ، ومهما ادّعت أنها تستطيع الاستغناء عنه، أو هو ادّعى أنه يستطيع الاستغناء عنها، كلاهما لايقولان الحقيقة
فلاغنى لأحد عن الآخر ،وإن أنكرا كلاهما ذلك.
*اليوم وبعد نتاج أدبي لابأس به باعتقادك أين تقفين بين الأشكال الأدبية ؟ وهل استوفى نتاجك العناصر الأدبية ؟
حقيقة لاأستطيع أن أحدد بالضبط أين أقف من أشكال التعبير الأدبية ، وإنما الأصح يمكن أن أقول إن الأشكال الأدبية هي من اختارتني ، ولقد اختارني الشعر ، لأنه الأقرب إلى قلبي ، إذ تركت نفسي على هواها ، أين ذهب قلبي، أذهب معه ، أكتب الشعر كما يقول قلبي لي ، حتى كونت أسلوبي الخاص بي الذي أُعرف من خلاله ، فقصائدي الشعرية هي هوية ولغة خاصة بمنى الشاعرة والمرأة.
ونتاجي الأدبي الآن استوفى عناصره الأدبية وخاصة في السنوات الأخيرة، لأني أصبحت أكتب عن ثقة ، فلقد كنت أكتب وأنا خائفة، لأن الكتابة مسؤولية وليست عملية سطحية كما يعتقد البعض من الناس وإنما هي نوع من التحقيق اللاإرادي للذات ، بالاضافة إلى أنها تجعل الكاتب يقف عار أمام الجمهور ، لذلك حرصت كل الحرص أن يكون لي الأسلوب الذي يميزني عن الآخرين من الأدباء فإنتاجي الشعري لاتوجد فيه كلمة مكررة، أو قريب لأسلوب شعراء آخرين .
*أخبرتني أنك لقبت بالقارئة الشرهة أو النهمة وهذا دليل على أن الكتاب لايفارق ناظريك ؟ لمن تقرئين ولماذا ؟ ومتى يقول الأديب لقلمه كفى أنا تعبت لم تعد لدي رغبة في الكتابة ؟
أقرأ لكل كاتب يكتب عن الإنسان وآلامه وصراعاته الداخلية، تستقطبني روايات الحرب بتفاصيلها المليئة بالحب على الرغم من المآسي والأحزان ، أقرأ لكل كاتب يحترم الإنسان في حالة الضعف والقوة ، أمثال ( تشيخوف – لير منتوف- مكسيم غوركي- بوشكين – تولستوي ) ، ولماذا لأني أريد أن أعيش على “قيد حياة وليس على قيد لقمة ” فالقراءة حياة عالم آخر ، فيه أكون أنا المرأة التي لم تكمل تعليمها ولكن بإصرارها استطاعت أن يكون لها مكان في الساحة الثقافية .. والأديب يتوقف عن الكتابة عندما يكون غير راضٍ عن نفسه ، فأنا أتوقف عن الكتابة عندما أقصر في حق نفسي ،وحق عائلتي ، ولذلك عندما أشعر بحالة من عدم الرضا ، وأتيقن بطريقة ما أني أسأت لنفسي ، أراجعها وأعتذر منها وأقول لها : أنا قصرت بحقك وأعدك بأن أتلافى التقصير وأعود لأنتظم ، ولأكتب من جديد .
* من المؤكد أنك عاصرت الأزمة السورية ، هل كتبت عنها ، ولماذا ؟ وماهي وظيفة الكاتب أوالشاعر في الأزمات ؟
مع أن الكثير من الأدباء ، كتبوا القصص والروايات وألّفوا قصائد الشعر، التي تتحدث وتصف معاناة الشعب السوري خلال الحرب ، إلا أني لم أفعل ذلك ، والسبب أن لدي إيمانا قويا بأن من يريد أن يكتب عن أزمة ما، أو حرب ما، أو معاناة ما عليه أن يعيشها وينصهر في داخلها ، عندها فقط يستطيع أن ينقل الصورة كما هي لأنه عاش تفاصيلها شعر بالألم والمعاناة ، بمعنى أنه خاض التجربة، ولكي أكون صادقة معك وظيفة الكاتب في الأزمات تتلخص في محاولاته المستمرة بنقل الواقع كما هو دون مبالغة أو تزييف ، فالكاتب له عين اجتماعية ، هذه العين عليها أن ترى وتبصر وتحس وتنقل بصدق ، ولهذا صدق الكاتب الفني مسألة لاتكتسب، إنها مضمون موهبته وجزء لايتجزأ منها ، فالصدق ليس عملا إراديا بقدر ماهو أخلاقي فبصدقه إما أن يكون موجوداً وإما لايكون. ..
*والآن حتى لاأطيل عليك، لكل بداية لابد من نهاية لذلك لابد من أن يكون هناك كلمة ختامية لحوارنا هذا ، فكيف تفضلين أن يكون الختام بالكلمات أم بالشعر ؟
أفضل أن يكون بكليهما ، أولاً أريد ان أقول كلمة لكل من أراد أن يكون شاعراً أو أديبا ، وخاصة الشباب الواعد أنصحه بالمواظبة على القراءة ، فنحن أمة اقرأ وللأسف لاتقرأ ، كما أريد أن أختم بإحدى قصائدي التي لها مكانة جداً قيمة في قلبي ، كونها تعتبر بداية نتاجي الشعري ، وتقول القصيدة / مابالهُ لايتصل / بكل صوتٍ أنفعل/ كأنني صغيرةٌ أو أنني في المقتبل / أحارُ من برودهِ لعلهُ قد انشغل / بغادة تحوطه وأسكرته بالغزل / الوقت يمضي مبطئاً ولم يحدد الأجل / أصابعي تثلجت وخاتمي يدور بلا كلل/ أدوره في أُصبعي ماذنبه إذا نحل! / سيشتري الزهور لي يستميحني القبل / وسوف لاأرده خائباً إذا فعل.
رقم العدد 16250