غيرة مجتمعية .. قصة من الحياة

الجماهير – هنادي عيسى

التقيتها تجلس تحت ظل شجرة على مقعد حديدي عند مدخل إحدى الكليات في الجامعة اقتربت منها وجهها تعتليه ملامح طفولية هادئة وجميلة ،استأذنتها بالجلوس بجانبها، فابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت لي: تفضلي ، شكرتها على لطفها معي، وجلست بقربها متخذة من الصمت صديقاً لي ولكني كنت أرقبها بعيني فإذا بها تطرق رأسها تارة في الأرض وتارة أخرى ترفعه لبرهة ، وتنظر نحو اليمين والشمال ، وتضغط بيديها على الأوراق التي كانت تحملهم بين يديها وبحسرة تعتلي وجهها البريء تنظر إلى المارة وإلى الطلاب الجالسين على المقاعد والمنتشرين على رصيف الكلية، فضولي الصحفي استثارني، واستفزني للحديث معها عما يؤرقها، لذلك لم أستطع البقاء صامته طويلاً فبادرت بسؤالها هل جئتِ للتسجيل في الكلية؟
فعندها نظرت إلي بنظرة لم أستطع تحديد معناها.. وقالت بتنهيدة عميقة وبصوت منخفض وخائف : لقد جئت لأرى في أي اختصاص سأسجل، فسألتها ألم تقرري بعد؟ فقالت لا فأنا أحب كثيراً علم الاجتماع، فقاطعتها قائلة.: اختصاص جميل وخاصة إذا كنت تحبينه وترغبين به، ولكن لما لم تقومي بتسجيل رغبتك بعد ؟ فنظرت إلي بنظرة فيها أحاسيس متناقضة، وللمرة الأولى أدقق النظر بوجه أحد، نظراته مملوءة بمزيج من الحزن الألم والفرح والاستغراب والخوف والضياع في وقت واحد ، قالت لي: إنني في حيرة من أمري ولا أدري بعد إن كنت سأسجل في الجامعة أم لا فقلت لها لماذا ؟صمتت لبرهة ثم تنهدت تنهيدة عميقة وكأنها في حاجة لأن تتحدث عما بداخلها من أحاسيس وقالت لي (سأروي لك قصتي )وبدأت حديثها بصوت يحمل الكثير من الحنين الممزوج بالألم ، عندما كنت في الصف التاسع كنت ألعب مع أصدقائي وأقول لهم سأدخل الجامعة وأصبح مختصة بعلم الاجتماع وسأعالج جميع مشاكلكم ، ولكن بعد حصولي على شهادة التعليم الأساسي أصرت أمي على تزويجي بدافع الغيرة، إذ أن جميع بنات أخواتها قد تزوجوا وأنا ابنتها البكر ولم أتزوج بعد ، وفجأة قطعت حديثها عن حياتها ونظرت إلي وقالت : قبل أن أتابع قصتي ،نسيت أن أخبرك بأن أمي مديرة مدرسة وأبي مهندس. وتابعت لينا قصتها فقالت : لم أستطع الاعتراض على قرار والدي فقد تركت المدرسة وتزوجت وبعد سنة من زواجي لم أرزق بطفل وتم الحكم علي بأن أبقى في المنزل، وكان زوجي من ساعة خروجه صباحاً إلى ساعة عودته مساءً يغلق علي باب المنزل ويقفله، ويأخذ المفتاح معه وكنت أبقى وحيدة خائفة، ماأذكره أنني كنت أضع أذني على باب المنزل آملة أن أسمع خطوات بعض الأشخاص وهم يصعدون وينزلون الأدراج ، كي أشعر أن هناك أحدا غيري يعيش في هذه الدنيا، كنت أتنصت من وراء الحائط لعلي أسمع بعض الأصوات التي تؤنس وحدتي، وتخبرني بأني مازلت فعلاً على قيد الحياة ، حتى أن أهلي إذا أرادوا المجيء لزيارتي كان عليهم أخذ الأذن من زوجي الذي كان يعطيهم المفتاح أو يأتي هو ويفتح لهم الباب ، وكل ذلك بدون أي اعتراض منهم على هذه التصرفات بحجة أنه زوجي ويحق له أن يفعل مايشاء ، وكانت معاناتي تزداد يوما بعد يوم وسنة بعد سنة ، وخاصة أني لم أتمكن من إنجاب أطفال، وكنت دائماً أشتكي لأهلي وأخبرهم عن رغبتي في الطلاق وتخليصي من هذا العذاب إلا أنهم لم يوافقوا كي لا أحمل صفة مطلقة، إذ أن الطلاق بالنسبة لهم عار وكانوا دائما يخبروني أنه يجب علي أن أتحمل وبعد خمس سنوات من المعاناة ، رزقني الله بطفل ( صبي ) وتغيرت حياتي نوعا ما، إذ لم يعد يقفل باب المنزل وبعد سنتين أنجبت مرة ثانية وأصبح لدي طفلان وتغيرت معاملة زوجي لي وحصلت على بعض الحرية ، وكنت أكرس كل اهتمامي ووقتي لأطفالي وتعليمهم والآن ابني الكبير في الصف الأول الابتدائي وأخوه الأصغر في الروضة .لذلك قررت أن أكمل تعليمي وأحقق حلمي وأخبرت زوجي بذلك فلم يعترض ولكنه قال لي: إنه لا يستطيع أن يتكفل بمصاريف دراستي وأن الحياة بعد هذه الأزمة أصبحت صعبة فقلت له لا بأس .
صممت على نيل الشهادة الثانوية وقمت بالتسجيل في دورات مكثفة والدراسة، في البداية كان الأمر صعبا لأني منقطعة عن الدراسة لسنوات والمنهاج مختلف عما كان عليه سابقا ، وعندما كان يشاهدني زوجي أدرس كان يقول لي ( لا تعذبي حالك مارح تنجحي ) ولكني لم أصغ لكلامه وخضعت للامتحان النهائي ونجحت، وسعادتي كانت لا توصف والفرحة الكبرى لدي كانت عندما علمت أن مجموع درجاتي التي حصلت عليها تمكنني من التسجيل في الفرعين الذين أحبهما كثيراً وهما (التاريخ وعلم الاجتماع ) وبالرغم من أن زوجي أصابته المفاجأة من نجاحي إلا أنه لم يعترض على دخولي الجامعة، وهو من أوصلني بنفسه اليوم لباب الجامعة .قاطعتها قائلة: إذاً لماذا أنت محتارة؟ فأجابت أخاف أن تؤثر دراستي وجامعتي على أطفالي فهم صغار وبحاجة لرعايتي فقلت لها لا تخافي فإن الكليات النظرية لا تحتاج لدوام بشكل يومي، وبإمكانك عندما يكون أولادك في مدارسهم أن تأتي إلى الكلية وتحصلي على المحاضرات وتقومي بالدراسة في المنزل ، ورغم جميع محاولاتي بإقناعها بالتسجيل ، ورغم اقتناعها ، إلا أنها كانت حائرة تردد كلمة لا أدري، وعلامات التردد والخوف ظاهرة على وجهها، ثم وقفت ونظرت إلى ما حولها وانطلقت مسرعة إلى خارج الجامعة، غابت لينا إلى وجهتها ومذاك الوقت وأنا في داخلي سؤال من الذي سينتصر لدى لينا؟ الشابة الطموحة الراغبة في الدراسة وتحقيق الحلم الذي انتظرته طويلاً أم عاطفة الأمومة التي حملها لها المجتمع ؟
لينا وبشكل طبيعي تحركت لديها غريزة الأمومة مما جعلها حائرة لاتدري أي طريق يجب أن تسلك ، هذه العاطفة أرغمت على تحملها باكراً على عكس الكثير من بنات جيلها ممن عشن طفولتهن بشكل طبيعي وتابعن دراستهن وحققن أحلامهن ، وبالطبع قصة لينا لن تكون الأولى ولا الأخيرة في مجتمع يسرق براءة الطفولة ويكتمها متذرعاً بحجج واهية، فهل هناك من يغير نظرة المجتمع وينقذ لينا ومثيلاتها من أهل يدعون الثقافة والوعي، وادعاؤهم هذا يسقط عند أول غيرة مجتمعية ويكلف أبناءهم الكثير من الألم والضياع؟! …
رقم العدد 16253

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار