إرث السابق نقطة بداية اللاحق�

 

بقلم: ربيع حسن كوكة

 يمضي الزمانُ وينتهي الإنسانُ

ويشعُّ منه على الورى وجدانُ

 

علمٌ وفهمٌ إن وَرِثنا نهتدي

لولا الأساسُ لما ارتقى البنيان

تحدَّثتُ في مقالةٍ ماضية عن إهمال الإرث الفكري والعملي، وزيادةً في البيان أتابع ما بدأتُ به إذ غالباً ما يَصُبُّ المرء اهتمامه في قضية الميراث إلى ما تُرِك من أموالٍ وعقارات مُبْعِداً عن ذهنه وربما غافلاً عن الكثير من الأنواع الأخرى للميراث، فلا يلتفت إليها ولا يعتني بها، وهذه التَرِكة ربما تكون أكثر قيمةً من المال والعقار على المدى البعيد.

وتبرز أهمية الإرث الفكري من خلال قدرة حامله على متابعة العمل ودفع عجلة التطوّر نحو الأمام بنفس الوتيرة التي سار بها سابقه، وتتجلى بشكل أوضح عندما يزيدُ اللاحق على السابق ما اكتسبه من خبرة جديدة، فيغدو الإرث نقطة البداية التي ينطلق منها اللاحق. ولهذا الإرث أنواع ينبغي الاعتناء بها ونقلها من جيلٍ إلى جيل بشكلٍ منهجي صحيح منها:

توريث الخبرة عن طريق اللقاء بذوي الخبرات: وذلك أن اللقاء بذوي الخبرات الذين قضوا حياتهم في ميادين العلم والفكر والعمل؛ والأخذ عنهم والتعلم منهم والاهتداء بآرائهم يمثّل أهمَّ طُرق التوريث العلمية لإرث الخبرة، لا سيما عندما يكون اللقاء والاستفادة من أولئك العظماء الذين لم يدوّنوا خطوات تطوّرهم الفكري أو العلمي أو المهني؛ فإن ذلك الكم الهائل من خبرة الحياة سوف يزول بزوالهم لذلك يجدر بمن يهتم باختصاصاتهم أن يُنظِّم لهم محاضرات أو دورات يخضع لها الطلاب لتلقي عُصارة علوم أولئك وليتمكنوا من البدء من حيث انتهوا. وتصبح تلك المحاضرات واللقاءات بمثابة مراجع يرجع إليها كلما دعت الحاجة.

فمثلاً يجب أن يلتقي أهل أي علم من العلوم بأولئك الذين تقدم بهم العمر ثم ابتعدوا بأنفسهم عن مهنتهم بعد عقودٍ طوال عاركوا فيها الحياة واكتسبوا من خلالها الخبرة، يجب أن تُنظم لأولئك الخبراء محاضرات يحضرها أهل الاختصاص للتزوّد بخبرتهم وتفعيل دورهم في الحياة. فكبار العلماء من كافة العلوم النظرية والتطبيقية جميع أولئك ثروة يمكن الاستفادة منها بلقائهم والتَلَقّي عنهم. ويخطأ من يظن أن أولئك الأشخاص قد انتهى دورهم في الحياة، إنهم بوصلة الدلالة للجيل الجديد، ومشاعل النور على دروب الحياة، إنهم بَرَكَةُ الحاضر وزاد المستقبل.

توريث الخبرة عن طريق قراءة ما تركه ذوي الخبرة من مؤلفات: ويُعتبر هذه النوع من التوريث أكثر سهولة من سابقه حيث تتم الاستفادة من خبرة الآخرين عبر قراءة كُتبهم التي تركوها في مختلف مناحي الحياة، وتمثل هذه الكُتب أو المُدونات ثراءً فكرياً لمن يطّلع عليها وذلك لأن كُتَّابها وضعوا فيها خُلاصة تجاربهم في الحياة.

ولقد لفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى هذا الميراث العلمي والفكري وقيمته من خلال الأحاديث التي تُشير بعمومها إلى ذلك منها قوله: ( إن الأنبياء لم يورّثون ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر) رواه أبو داوود، فالعلم إرث يجب تلقيه، وفي إشارةٍ منه صلى الله عليه وسلم إلى التوريث العملي من خلال تناقل الأفعال والممارسات التطبيقية إضافة إلى العلوم النظرية قال مخاطباً الأمة:(خَلَفْتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ) أخرجه أحمد، فبالإضافة إلى كون القرآن الكريم والسنة الشريفة مصادر للتشريع هما أيضاً مصادر لتعليم السلوك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي و….

ومن ناحيةٍ أُخرى فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى الحفاظ على إرث الصالحين من خلال أبنائهم وذوي قرباهم فقال: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ به لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ, وَعِتْرَتِى: أَهْلَ بَيْتِي) أخرجه الترمذي. فالتمسّك بصحبة أهل الصلاح والتقوى من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على هديه يُعتبر تمسكاً بالإرث الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبيّن صلى الله عليه وسلم أهمية اللقاء مع ذوي الخبرات والأخذ من علومهم فقال: ( ليبلّغَ الشاهد الغائب؛ فإن الشاهد عسى أن يُبلّغ من هو أوعى له منه ) رواه البخاري. وهذه الأحاديث النبوية وغيرها تبيّن أهمية التوريث العلمي والعملي ليس فقط على المُستوى الديني أو الأخلاقي بل على سائر المستويات الحياتية.

ونحن في مجتمعنا ينبغي أن نُفَعِّلَ دور هذا الإرث ابتداء من حكايا وذكريات الجد والجدّة، وصولاً إلى محاضرات كبار الشخصيات العلمية والأدبية؛ تفعيلها ليس فقط بتسليط الضوء عليها بل بتحويل المُفيد منها من حيّز القول إلى حيّز التطبيق.

رقم العدد 16302

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار