الجماهير – حسين قاطرجي
عندما أدرك العدو -بعد سنواتٍ طويلةٍ من الحرب- أنّ المواجهة العسكرية باتت غير ذات جدوى؛ رأى أن يوسّع دائرة حربه ليوجّه سلاحه هذه المرة إلى العقول مستخدماً إحدى أشهر وسائل القوى الناعمة وهي الغزو الثقافي.
ومن ملامح هذا الغزو ما لاحظه الكثير من القرّاء والمهتمّين بالشأن الثقافي في سورية؛ وهو انتشارٌ غير مسبوقٍ لكتبٍ تدّعي أنها علميةٍ فلسفيةٍ مؤلفها كاتبٌ صهيونيٌّ اسمه (يوفال نوح هراري).
عندما أجد كتب هذا الدّعي على واجهات المكتبات السورية ينتابني شعورٌ عميقٌ بالهزيمة، هذا الشعور الذي لم تستطع كل سنوات الحرب الطاحنة أن توصله إلى نفسي، ليس لأنّها تحتوي أفكاراً معلّبة وفاسدة فقط، بل لأنّها لكاتبٍ صهيوني يعمل أستاذاً للفلسفة في الجامعة العبرية وهو بالطبع أداةٌ منهجيةٌ، وبيدقٌ تحركه دوائر الاستعمار الفكري.
ليوفال هراري الصهيوني كتابان هما (الإنسان الإله) و (العاقل) وهو الكتاب الذي يختصر فيه مراحل عمر الإنسانية بثوراتٍ ثلاث هي: الثورة الذهنية التي انطلق شعاعها قبل 70 ألف عام، والثورة الزراعية قبل 12 ألف عام، والثورة العلمية قبل 600 عام من الآن. ويتعامى الكاتب في كتابه هذا عن أبسط البديهيات العلمية والمنطقية حول أصل الإنسان وخلقه، وهي البديهيات التي يؤكدها العلم بالأدلة الدامغة ليروّج -من جديدٍ- للمهزلة الداروينية وهي نظرية (الإنسان/الحيوان) التي لايقبلها فكرٌ سليمٌ أو منطقٌ قويم. والتي لا يمكن أن تنطبق على إنسانٍ، اللهمّ إلا هذا الكاتب وطابور المصفقين من خلفه!
وإن لم نكن بصدد تشريح هذين الكتابين وتفنيد الثرثرة والقيء الفكري الذي بثّه الرجل لمصدّقيه من مغيّبي العقول، فإنّ السؤال المطروح الآن: كيف وصلت هذه الكتب ورقيّاً إلى المكتبات السورية؟ ومن سمح بتداولها؟ ولمصلحة من؟ هذا كله في الوقت الذي نفتقد فيه أعمال كبار مثقفينا والإصدارات الجديدة للكثير من دور النشر العربية.
إنّنا نؤمن أنّه ليس من حقّ أي جهةٍ أن تلعب دور شرطيٍّ على العقل، ومن حقّ القارئ أن يقرأ ما يشاء دون أن تقيّده رقابةٌ إلا رقابة الفكر الناضج الواعي، ونعي أنه في عالم الإنترنت حيث التدفق الحرّ للمعلومات وسهولة تحميل الكتب الإلكترونية يمكن لكل قارئٍ أن يصل إلى الكتب التي يريدها متجاوزاً الرقابة الحكومية ودون أن يتكبّد عبء التكلفة المادية. لكن من غير المقبول أن تنتشر أعمال كتّابٍ صهاينة على واجهات المكتبات السورية وبترويجٍ مستعرٍ وتخفيضاتٍ حقيقية تشجّع القارئ على الاقتناء لبدء تغلغل الفكر الفاسد إلى البيت السوري المحّصن.
إنّ الأمة المهزومة فكرياً تنقاد إلى عدوها طواعيةً، وإنّ قوة الوطن وتماسكه لا تُقاس بقوته العسكرية والاقتصادية فحسب، بل بقوة شعبه وأصالته واعتزازه بلغته وثقافته، وإن أي محاولة للاختراق الثقافي يعني مسخ هوية الوطن. وإذا كانت قوة العدو العسكرية تتبدّد على جبهات الحرب فإنّ مواجهة غزوه الثقافي يتطلب منا لوناً آخر من المواجهة يتجلى أولاً في بناء فكر الإنسان وعقله وتحصينه من التفلّت والتسخيف الممنهج.
رقم العدد ١٦٣١٤