بيت جدي

الجماهير – يمنى حمامي 

هل استطعت يوما أن تتجول في دهاليز روحك ، و تنقر على تلك الجدران الثابتة فيك ، والتي تمنع روحك أن تنحني رغم هشاشة ظاهرك ؟!

ثم هل خطر ببالك أن تتسلل إلى ما وراء تلك الجدران ، لتتلصص على خفقات قلوب لازالت تنبض بأصوات من رحلوا ؟!

و هل استطعت يوما أن تجمع وأنت تلهث عشقا ، كل روائح النارنج و زهر البرتقال و تفتيح الكبادة التي ما استجارت يوما من طرح ثمارها فوق أرضية الدار التي تضج بالحياة صخبا و ضجيجا محببا إلى النفوس ؟!

أظنني فعلتها ، لأنني تغربت عن حلب منذ طفولتي ، واحترفت السفر في تلك الدهاليز منذ حينها ، وإن كنت تعرف حلب وحاراتها لابد لك أن تعي ما اقول ، و إن كنت لا تدري فاسأل ظلال الأشجار حيث كنت تهوى القفز واللعب ، و اسأل النوافذ التي كنت تطيل الجلوس على مساطبها ، هل تتسع أعوام طويلة ما بين رفة عين و وقوع قدر ؟؟!!

نعم ، هناك حيث الحارة التي أعرفها جيدا وأحفظ تفاصيلها ، في ( الماوردي ) هناك كان بيت جدي ،،،

حيث شهد تعاقبا للسنين ليس بقليل ، اجتماعات الأحبة والأقارب ، حيث يحلو السمر والسهر .. و سرد الحكايات ،

كان لابد لك وأنت تتجول في دهاليز روحك أن تلمح طوق الياسمين يترنح بين راحتي جدتي ، وكأنها تحيك للربيع أثوابا من الفرح ، و هناك في إحدى الزوايا أمعن النظر ، لأنني اظنك ستلمح ايضا تلك النظرة الثابتة التي امتاز بها جدي ، ولم يغيرها مرور أيام ولا دهر !!

رغم أنه كان يحترف إخفاء حزنه خلف نظارته العتيقة عتق العمر ، بابتسامته الدافئة و حكاياه الشيقة ، وكلنا حوله يملؤنا الشغف لسماعها .. ولا نمل من تكرارها ..

لقد كانت تغريني حقيبته المصنوعة من الجلد ، أغرق فيها مثل طفل عشق الحكايات واعتبرها بوابة لتحقيق الأحلام ، احلامه الصغيرة ..

فقد كان جدي حريصا على إرضاء عشقنا ذاك للبحث عما يسكت ضجيجنا نحن الأحفاد ..

و كم كان لكل التفاصيل في بيت جدي نصيب من شغبنا آنذاك ، بدءا من عتبة باب الدار ، وحتى زواياه .. وصولا لدرجات السطح ، وطاقات الأقبية .. حتى أغصان الأشجار لم تنجو من شغبنا ..

و حتى هذه اللحظة ، لا تغيب عن مخيلتي ردة فعل جدتي على تسلقنا على الأشجار ، لقد كانوا كأبناءها ، تسقيهم الماء و تدندن لهم بأغنيات تشعرك وكأنهم يصغون لها ، وتربت على أغصانهم وأوراقهم كما الاطفال المدللين ، و كانت تداوم على تهجير اليابس منهم عن الأخضر ، وكأنها تعلن لهم موسما للتحليق من جديد ..

جب الماء في بيت جدي كان يحتل إحدى زوايا المطبخ ، كل ما اعرفه عنه أنه كان يشكل لي رعبا ، وربما عقابا لم أنله يوما إن انا تجرأت وبحثت في سره ،، أعتقد أن لكل منا جب عميق في روحه ، لا يستطيع أحد الوصول لحقيقته ،

كم كانوا رغم أمية تعليمهم ، أغنياء في نفوسهم ، ذوي فطنة وفهم قل نظيره ،

فقد كان في بيت جدي سبع او ثماني غرف كبيرة تسمى ( مربعات ) ، اعتقد يعود ذلك لشكلها المربع ، بالإضافة إلى سماوية تتوسط تلك الغرف تطل على السماء ، ترد الروح نسائمها ، وتتراص على جنباتها أحواض الزرع ، المزروع فيها الكثير من انواع الأشجار ، والتي تشكل بتراصها وعلوها سحابة خضراء تظلل السماوية ، وتضيف في فصول السنة مساحة روحية كبيرة ، تشاهد خلالها كل فصل على حقيقته ،، ولابد في كل دار عربية في حلب أن يكون لليوان النصيب الأكبر بالحكايا والتفاصيل !!

تلك المملكة بكل تفاصيلها التي لن يتسع للإسهاب بالحديث عنها هذه السطور ، تدار من قبل جدتي ، بتوجيه من جدي !!

لقد كانوا يجيدون تغذية حواسهم ، يمتعون ناظرهم ، ويشبعون أرواحهم بما تألفه ،

أظنني لن أنسى وأنا أغادر تلك الممرات الروحية ، أن أذكر ذلك الباب ، باب بيت جدي ذو المسامير النحاسية التي كانت تزينه ، فأنا أتذكر جيدا كم كان عدد تلك المسامير النحاسية على ذلك الباب !!

الباب الذي لم أعهده مقفلا إطلاقا ،، حتى ( سقاطة) الباب لا تغيب عن مخيلتي ،

وتسائلت كثيرا عن كونها تحمل شكل الكف الحاني المثبت على تلك الأبواب ،،

وكأنها تعلن الحب طقسا من طقوس تلك الحقبة من الزمن ، كيف لا وذلك التفصيل يبدد مشهد صلابة تلك الأبواب .. ليأتيك بعد اجتيازه ، رفرفة ستارة الدار !

نعم ، ألفنا في طفولتنا تناغم الحارات العتيقة في حلب ، وألفنا توحد أرواح قاطني تلك البيوت ، التي لا تعلم كيف تكون هي مثل بيت واحد مخلوق من نسبج واحد رغم تعدد المذاهب والديانات ،، ولكن بالمقابل ، كان لهم خصوصيتهم .. لقد كانت توحدهم العادات والتقاليد ، و كانت تتوجهم الأخلاق والتربية ، بالفعل أنت لا تستطيع أن تفصل بيت جدك عن عبق تلك الحارات و دفء الشعور فيها ..

أرجوك لا ترحل بعيدا عن تلك الأرواح ودهاليزها ، فالأرواح تهوى وتعشق الهجرة إلى الماضي ، ليس لأنه انقضى ومضى ، ولكن لأنه بمثابة موطأ السلام ورحابة الصدور ، حيث تشعر دوما بالدهشة و بأنك مغمور حتى النخاع في غياهب تلك الزوايا و عمق تلك التفاصيل و خيالات الراحلين ، مصباحك بيدك ، تنير متى شئت أيا من تلك الزوايا وتطلق العنان لروحك لتنهل منها حبا ودفئا وسلام .

رقم العدد 16332

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار