حلم رجل مضحك ومعنى الحب!

 

الجماهير- بيانكا ماضيّة

عبر اثنتين وعشرين صفحة في قصة (حلم رجل مضحك) يطلعنا الكاتب الروسي العبقري فيودور دوستويفسكي على تاريخ الإنسانية، دوّن تلك القصة بأسلوب قصصي بارع، وبمعالجة رائعة وبتركيز متقن، يطلعنا على قصة ذاك الرجل المضحك الذي عرف الحقيقة من خلال حلم، والذي كان يرى بأن كل شيء في هذه الحياة لايستحق الاهتمام، كانت التعاسة تغمره وإحساسه بالعبثية لاحدود له، لكن هذه العبثية ستتحول في ليلة حالكة الظلمة إلى معنى هذه الحياة، ففي طريقه إلى منزله يرى نجماً صغيراً في السماء يلمع بين بقع سوداء عميقة فيها، هذا النجم الصغير هو الذي سيوقظ في نفسه فكرة الانتحار، وقد تهيأ لهذا الأمر، ولكنه وهو في طريق عودته باغتته طفلة فأمسكت بكمّه، مستنجدة به، باكية أمها، لكنه يرفض أن يساعدها فينهرها، مما اضطرها لتركه والاتجاه نحو شخص آخر.
عاد إلى منزله غير منصت للعراك الذي نشب في الغرفة المجاورة لغرفته في البناء الذي يقطنه، لأنه في ذاك الوقت اتخذ قراره بالانتحار.
حشا مسدسه بالطلقات ووضعه على الطاولة وأشعل شمعة وجلس صامتاً، وبدأ يشعر بالألم وبالشفقة تجاه تلك الطفلة المسكينة التي رفض مساعدتها، وبدأت المحاكمات العقلية تترى في عقله، وشعوره بالعار من قلة الضمير التي ارتكبها.
أسئلة وجودية كثيرة راحت تتوالى في ذهنه، وجميعها تدور حول العالم والوجود ووجوده الإنساني فيه، أسئلة تتعلق أيضاً بتلك الطفلة التي كانت سبباً في عدم انتحاره، إذ أخذه النوم فجأة، وراح يحلم بحلم غريب، الحلم الذي أظهر له الحقيقة الأزلية فنقلته من حالة العبثية إلى حياة جديدة متجددة وقوية.
حلم بأنه انتحر، ومن ثم تم وضعه في تابوت، لديه خدر في أحاسيسه، لكن فجأة ينقله كائن غريب من قبره إلى مسافة بعيدة في الفضاء، إلى أن رأى شمساً تشبه شمسنا، وهي نسخة عنها ونظير لها، مما ولد في نفسه إحساساً لذيذاً حلواً غمر روحه، فأحس بالحياة تعود إليه لأول مرة بعد أن قبر، ثم يتجه نحو الأرض ليجد نفسه وسط أناس يملؤهم الفرح والحبور، ولا يعرفون طريقاً للفساد، لقد أيقن أن هذه الأرض هي الجنّة قبل أن تلطخها الخطيئة، لقد ولدوا في نفسه ذاك الشعور بالحب نحوهم، لكن معارفهم تختلف عن معارفنا، ومشاعرهم تختلف عن مشاعرنا، لم يكونوا يعرفون الحسد والبفض والحقد والضغينة والألم والدموع، لا معابد لديهم لكنهم في اتحاد كامل متواصل مع الكون الكلي، ولديهم ثقة راسخة بأنهم حين يبلغون فرحتهم الأرضيّة حتى أقصى حدود الطبيعة الأرضيّة فسيحققون جميعهم أقصى درجات التواصل والاتحاد مع الكون الكلي..
ولكن الذي حصل أنه أفسدهم، إذ بدأ أهل الجنة يتأثرون به، عرفوا المجاملة ثم الكذب ثم الحقد، فخرج من بينهم دعاة يريدون للناس خيراً فما كان منهم إلا أن قتلوا الدعاة وسنوا قوانين للعقوبات، ظهر الكره والنزاع والانقسام والحروب والإيديولوجيات، وتفشى الظلم والقتل، إنه ببساطة نسخة من تاريخ الإنسانية ، فصرخ الرجل المضحك فيهم أن يعودوا إلى ماكانوا عليه، ثم قال لهم أنا سبب معصيتكم فسخروا منه، فجع بطلنا بما رأى وأنّبه ضميره على ما فعله، استيقظ من حلمه متألماً وقرر عدم الانتحار، وإنما دعوة البشرية إلى العودة لعقيدة الحب، نذر نفسه لأجل هذه العقيدة، وقرر أن يبحث عن تلك الفتاة الصغيرة ليساعدها…
ماتخبرنا به هذه القصة أنه بدون الحب لايمكن أن تكون هناك حياة على سطح هذه الأرض، فعلى المرء أن يحب أخيه الإنسان كما يحب نفسه، وماذاك إلا لأن هذا الحب هو الذي يعطي الحياة معناها وتدفّقها وتوهج معانيها.
رقم العدد ١٦٣٣٥

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار