الجامع الكبير

الجماهير / يمنى حمامي

أغمض عينيك و خذ نفسا عميقا ، وأطلق العنان لتلك الروح الحبيسة في ثنايا صدرك ،والموغلة بالبساطة والسطحية ، و حلق معي إلى هناك ، و اصغ إلى تمتمات المصلين ، و لا تفتح عيناك قبل أن تهيم كالملاخانة في هاتيك الفسحة المهيبة ، توضأ بطهر المكان ، وانزع عنك ثوب السقام ، و صل حيث قدماك تطأ ، فالأرض هناك لا تتنفس الخطأ ،
نعم إنك الآن في رحاب الجامع الأموي الكبير في حلب ، و الذي أول ما يتبادر للذهن عندما يسمع اسمه أنه مكان للصلاة والتعبد ، إنه كذلك ، لكن مالا يعلمه الآخرون ، هو أن الجامع الكبير مستراح من أعباء الحياة وهمومها ، من الطراز الرفيع روحيا ، فهو مقام سيدنا زكريا عليه السلام ، وهو المكتبة الإسلامية الذاخرة بالكتب والمخطوطات ، و هو دمعة محروقة على خد عجوز بائسة ضاقت بها الحياة سبيلا ، فتوسدت جدرانه ، و هو آخر الآمال لشابة طوى صفحتها المجتمع بعاداته المهترئة فتعشقت يداها المقام ، و هو أيضا كف مقبوض على بضع ليرات خبأها ذلك المسكين ليداوي بها قلة حيلة ابنه البكر ، ثم يضعها في كف المكفوف ، ليسمعه تراتيل محمدية على نية ضمرها في صدره ، و لو كان على علم مسبق بضآلة تحقيقها ، لكنه استطاع إزاحة تلك الصخرة القابعة على روحه ووضعها في تصرف قداسة المكان ، عله يمحي بذلك ذنبا ارتكبه ،
لقد كان لي زاوية هناك ، آوي إليها كل حين ، أدعو دموعي واحزاني ووحدتي ، لأرمي بهم بين يدي من أشتاق إلى رحمته ، و لا تنسى حين تسند كتفيك على أحد تلك الجدران أن تتأمل مأذنته الشامخة ، والتي كانت كسبابة التشهد في الصلاة ، في يمين الجامع ، الجامع الذي أتساءل دوما هل كانت الاسواق والحارات القديمة المحيطة به هي التي تحفظ مكانته ، أم هو الذي كان يسبغ على كل شيء حوله طبيعة الهدوء والسكينة ، رغم وجود كل ذلك الضجيج ، أم كان يتشابه مع تلك التفاصيل الممتدة في شرايين حلب ، بأنه يعطي انطباعا بالهدوء و في جوفه انطوت معاني الصخب الروحي الذاخر بالحياة !!!
فيه كما كل شيء في حلب ، سر مكنون ، و بوح إن هو أعلن فهو أقرب للجنون ،
تحكي لك ذلك بواباته الغارقة في حجارة الحارات حوله ، فلا أنت بالخارج منها ولا أنت بالداخل إليها ،
و لقد كان لشهر رمضان طابع روحاني خاص جدا في أروقة حلب ، تتجلى أبهى صوره في رحاب الجامع الكبير ، عندما يصدح منه الأذان و تقام فيه صلاة التراويح ، و تتحول تلك البقعة من الأرض لمحفل مهيب تمتزج به كل فئات المجتمع وطبقاته ، متناسين ضغوطات الحياة ، و جل ما يهمهم هو أداء العبادات التي تتوجها الصلاة ، ويمتد كأحد فروعها السعي في تحصيل الأرزاق ،
هل استطاعت ذاكرتك و أنت مغمض العينين أن تخلق لك جناحان من شوق و شجن ، وتأخذك إلى هناك حيث نهايات الحزن وموطن لآلئ الوطن ؟!
لقد كانت روحي بالفعل هناك .
رقم العدد 16354

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار